قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

3/23/2006

رغبة مشاكسة



المدينة تمثال نوميدي مهشم، وهو وسط الزحام فرع زيتون مكسور.. حذاءاه بجلدهما المهترئ يدقان الرصيف بثقل التاريخ تاركان خلفهما أثارا عشوائية تسخر من إشارات المرور و المسار المحدد..
عود الثقاب المحترق يتأوه بين أسنانه المثقوبة..عيناه الحادتان اليابستان تختفيان خلف نظارة شمسية سوداء مخدوشة..عواصف راعدة تصول في منخاريه الضيقين مربكة شيب شاربه الغزير.. يداه الكبيرتان في جيب سترته المثقوب تبحث غريزيا على قطعة نقدية مختفية، تستجيب لرغبة مشاكسة في فنجان قهوة مرّ..
يتوقف هنيهة عند عارض الجرائد اليومية.. يقرأ في عجل العناوين العريضة.. يبتسم على مضض:
- لا جديد.. نفس الأكاذيب..
يحدج واجهة المكتبة.. يمرّ على عناوين معروضاتها المغبرة.. يبزق لعابا ودم:
- نفس الكتب القديمة.. لا راهن و لا مستقبل.. الماضي يملك وجودنا المنفي في الركن المظلم..
يقصد قاعة ألعاب الفيديو المجاورة.. يدلف الصخب الإلكتروني.. يستقبله صاحبها بابتسامة ودودة.. يصافحه مرحبا.. يستفهم عن أحواله:
- بطالة و روتين و الكثير من السأم.. يخبره ، وهو يحرر ناظريه من الزجاج الأسود..
- إنها مأساة.. مهندس دولة في الإعلام الآلي يعاني البطالة.. أي مفارقة هاته..
يتحسر صاحبه ، وهو يفك لشاب مائة دينار إلى قطع خمسة دنانير.. فتمتم ، وعيناه تتفرجان على لعبة القتال المميت:
- الأمر عادي يا صاحبي.. ما حاجة التخلف لبرامج حاسوب تكشف زيف وجوده..
القتال رهيب على الشاشة، و فوق أزرار الآلة.. الصبيان المتنافسان منغمسان حتى النخاع في هذا الجو المشحون..
يحملق في حماسهما.. يراهما فوق الحلبة بخناجر و فؤوس.. الشرّ يتطاير من مسامهما.. يزأر الأول:
- سأحمل ظهرك كل غمي..
وينفخ الثاني:
- سأمزقك كما العالم سيمزقني..
نداء من عمق القاعة يستدعيه.. رفيقه في الجامعة يشير إليه.. يستجيب برضا للدعوة ، للعبة البيادر دون تردد.. كم يستهويه ارتطام الكرات و سقوطها في الحفر.. وهو سقط في الحفر..الكرات بالأرقام الثنائية أسقطته هو و أمثاله أحادي الأرقام في البالوعة.. عالمه كله حفر و مقابر لأمثالي ، يعلن في سرّه..
- انتظرتك البارحة ، قال صاحبه و هو يدفع الكرات بعوده الطويل بقوة لتصطدم بالكرات الأخريات فيبعثرها..
-البارحة كنت أجرب حظي في مسابقة توظيف معلم في الابتدائي..
- وهل تتوقع النجاح بلا سند متين؟ سأل صاحبه مبتسما..
- الله وحده يعلم.. أتعلم كلّ المشاركين جامعيين .. أتذكر المهندس فروق ؟ هو كذلك شارك في المسابقة..
- المسكين عاد نحيفا بعد سمنة.. هل تعلب؟
فأجاب بالإيجاب .. التقط عوده المفضل ، وقال مسددا:
- أحمد الله أنه لم يجن مثل غيره..
ثلاث ساعات في اللّعب مرّت بسرعة.. الهمّ فيها تركز في الفوز بالجولات و إظهار البراعة ، و كان حقا بارعا..
الغروب في الخارج يجمع ألوانه ويختفي خلف الستار الأسود.. أضواء الشارع أنيرت منذ مدّة طويلة.. الحركة خفت إلا من بعض السيارات و المتشردين..
قال له صاحبه، وقد أحاط كتفيه بذارعه الطويلة:
- ماذا تقول في زيارة قصيرة إلى مقهى السعادة، سأتكفل بالمصاريف..
- و لما لا، على الأقل نغيّر الجوّ.. قال في ضجر..
إنّه يعلم جيدا أن ما يقصده ما هو إلا ملها ليليا بثلاث طوابق، يجتمع فيه أصحاب النشوة و الأعمال..
الغريب في الأمر أنه أقيم غير بعيد عن المسجد الكبير للمدينة.. إنها مهزلة العصر، قال مستهزئا لصاحبه وهما يقفان عند الباب لدفع أجرة الدخول..
المكان الواسع يتلألأ بالأضواء الملونة و البشر .. لم يكن يعتقد أنه سيجد نفسه يوما وسط هذه الأجواء الصاخبة بوهج موسيقى الراي و حمى الرقص و الإثارة ، أن يقف وجها لوجه مع عري الأنثى وهي تعرض مفاتنها للبيع..
صاحبه يسأله:
- ماذا تطلب ؟
أجابه بانبهار:
-عصير البرتقال..
- ولي ويسكي مضاعف.. هتف صاحبه بنشوة، اليوم يا رفيقي سأذيقك طعم الهجرة.. كلّ ما تراه مستورد ويتحكم فيه الحاسوب ، حتى النساء من وراء البحر..
لم ينبس بكلمة، مضغ لسانه وتركه ينقبض وكأنه أصابه مسّ.. عيناه الجاحظتان وحدهما تجولان في الوجوه وبين الكم الهائل من اللحم البض المتموج بالفتنة.. يشّدهما كهل منتفخ يكلم قنينته ، يبين لها عن حرقته:
- هل يكفي أن أتجرعك دفعة واحدة لأرى السواد بياضا ؟ أم جرعة جرعة لأراه ورديا بلون حبيبتي المتبخترة..
ويتركه يفرغ النار في جوفه، ويرنو إلى منصة الرقص.. يلمح تشكيلة محافظ نقود تتموج ، تتعرى أمامه، تكشف أوراقا خضراء وأخرى زرقاء تحمل في وسطها رسم قلب اخترقه فأس، ومن بينها يقفز أقزام حمر ببذل رسمية طويلة، منتفخي البطون و الأشداق تخترق رؤوسهم أقفال صدئة ، يرقصون حول نار تلتهم حاسوبا وأقراصا مدمجة.. ومن فوقهم على منصة خشبية ينط قرد يرتدي ثياب بهلوان يشعبذ برأسه هو وبرأس أينشتاين ، وهو يهتف بسخرية:
- النفاية.. النفاية.. أين توضع ؟ ويقذف بالرأس تلوى الآخر في سلة مهملات غير بعيدة، توضع، توضع، ويقهقه، في الزبالة..
المصير مقزز يجعله يتقيأ بلا قيء ..
الصخب يزعجه، يضايقه، يكشف له اشمئزازه من التيه المبرمج، من المجون المرفوض من كلّ كوامنه.. عقيدته تمنعه، تكبل إرادته حتى وإن أراد التبلل بالبول الآسن..
ينتفض.. يعلن انسحابه بلا التفات أو تردد..
حشرجة عنيفة تغرز مخاطفها في صدره وحلقه، وهو يغطس لوحده في الشارع.. عيناه الواسعتان تتدرجان بالحمرة و الندى..الحسرة على مجرد التفكير في الخطيئة رهيبة رهيبة.. يختان نفسه:
- ضعيف أنت و بخس.. تفكيرك بدل أن يعمل ليرقى أجده يجتهد ليتدلى إلى سافلين.. متى كانت الرذيلة مخرجا من العسر؟ الرّذيلة لا تجر إلا الهلاك يا رجل..
أذان العشاء يعلو ينبهه إلى شتاته.. يلتفت يمينا ثم شمالا.. يملأ رئتيه بنسمة ليلية باردة.. يجمع شتاته ويندفع بإذعان إلى المجسد القريب مرددا وريد المساء..

مغنية 2000



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية