قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

1/06/2018

الانتحار

طرد مفاجئ يسلم لصحفي مشهور.
الطرد يحوي مفاجأة رهيبة! 
قصة "الانتحار" قصة مشوقة تجمع بين جمالية اللغة و الحبكة الدرامية. 
تستحق القصة فعلا المطالعة.






التابوت الخشبي

التابوت الخشبي قصة مشوقة تجمع بين جمالية اللغة و رحابة الخيال و التشويق.نشرت القصة في مجلة الرافد.لعشاق القصة القصيرة حملتها على موقع scribd.com


الفيروس

تم نشر هذه القصة في مجلة الرافد العدد يونيو 2015 .و قد أعدت نشرها على موقع scribd.com للقراءة المباشرة مع امكانية التنزيل للراغبين في ذلك.

2/08/2017

الشرخ

أقتحم هذا الضباب الكثيف و هذا المطر الغزير الهاطل على غير عادته في هذا اليوم الأخير من شهر سبتمبر.. أضواء الشارع تعكس فراغه و وجه  بلخير مدمن خمر ملقا على كرتونه بجانب مدخل الحانة الوحيدة في هذا الجانب من المدينة.. سواد بشرته وطوله الفارع يعطيه هيبة حارس ليلي لولا ثيابه الرثة.
أمر بجانبه مسرعا بعد أن ركنت سيارتي غير بعيد.. يستوقفني ماسكا سروالي ..
" نسيت البركة يا صديق.. خوك راه والوا.."
أضع في يده الممدودة خمسين دينارا و أحرر ساقي و سمعي..
 أقتحم صخب القاعة،أنغام الراي و المتعة الحالمة لعلها تنسيني ما أنا فيه من غم، لعلها تعيد لي ملهمتي الغاضبة منذ أكثر من سنة فتُوحي لي ببقية روايتي الأخيرة..
 أعاين الطاولات باحثا عن قدور التويست.. أجده وحيدا في زاوية غير معتادة.. بنرفزة يعاتبني عن تأخري..
" هذه ساعة و أنا هنا وحيدا أنتظرك.. لماذا تأخرت.."
 أرد، آخذا مكاني قدامه.." الله غالب.. الآن فقط  سلمت السلعة لأصحابها.. السيارة فعلتها مرة أخرى.. كل الأمسية قضيتها في إصلاحها.."
 يقدم لي قنينة هينكن.." اشرب و أبعد الهم عن رأسك.. الليل خمر و الصبح أمر يا سي أعمر..دعنا من المشاكل و خلينا في لِيبْرُوبْلاَ[i]م.."
 يبتلع جرعة حارة.. يسحب رأسي و يقبله..
" هذه في خاطر الصحبة تاع الصح.."
 و يضيف جرعة أخرى.." أتعلم يا صديقي العزيز أني .."
 و يصمت و قد اختنق صوته و احمرت عيناه.." حسنا.. تعلم أني لا أبوح بأسراري إلى لك يا سي علي.. تعلم ذلك.."
 فأشرت له موافقا.. يسحب رأسي مرة ثانية و يقبله.." أنت صاحبي ، خويا، و بُويَا.."
 و يبتلع ما تبقى من القنينة..فقدمت له قنينتي و استدعيت النادلة طالبا قنينة أخرى لي..مسح شفتيه بكفه.. نظر إلي مليا ثم قال..
" هذا المساء أدخلت ميساء إلى المستشفى.. "


[i]  المشاكل بالفرنسية.

10/05/2013

غلاف المجموعتي القصصية الأخيرة ـ لم تنشر بعد ـ


هذه المجموعة ضمت الفهرست التالي:


6/12/2012

الانهيار

       ألم أقل لك إياك و خيانتي؟ ألم أنذرك سلفا؟ يعتصر  وجهها العارق بين كفيه المتواريتين داخل قفازين مطاطيين أبيضين  و يضيف معتصرا أسنانه.. ألم تؤكدي لي أنك لست مثلهما و أن المرأة يحكمها عرضها و أصلها..ههههه.. ألم أنذرك؟.. و رفع يديه إلى السماء صائحا.. يا رب حذرتها مرارا و تكرارا لكنها لم تأخذ تحذيري بجد.. عيناها الرماديتان تحدقان فيه وقد فاضت دمعا ورعبا.. فمها المغلق بكتلة قماش وشريط لاصق يحشرج أنينا متوسلا.. يمسك شعرها بعنف ، يمرر خصلاته فوق منخريه يشم رائحته بعمق مزمجرا.. إحساسي لم يخني هذه المرة ..رائحتك أخبرتني أنك مثلهن نجسة، قذرة.. و يصفعها بعنف.. قلت لك أيتها النتنة أني لن أتحمل خيانة أخرى..و يبتعد ملوحا بيديه.. لكنك استهترتي بوعيدي  و غرتك لطافتي.. فؤاد طيب لا يؤدي بعوضة.. فؤاد خواف يده مشلولة.. فؤاد لا يطيق رؤية الدم.. و يلصق ناظريه بناظريها مبتسما .. هكذا يراني الجميع..اليوم ستكتشفين حقيقتي يا صاحبة الأصل و الشرف ..يحمل خنجره الكبير و يصدمها بعينيه الحادتين اللامعتين الغارقين في حمم حمراء، و هي تزدادا وجلا  و انتفاضا محاولة تخليص نفسها من الأصفاد التي تشدها شدا متينا للطاولة الممددة عليها عارية...


بقية القصة على الرابط التالي:
                               قراءة ممتعة

10/29/2010

صوت و صمت


- أين أنا؟ما هذا المكان الغريب؟ كيف حللت هاهنا ؟

الاستغراب حلق به في كهف مسدف لا مخرج له. و الحيرة طوقته بضبابها الكثيف حتى بدا له أن ما يراه لا يخرج عن كونه صنيع سراب. فهل يعقل أن يجد نفسه فوق قارب خشبي قديم و قد جلله الضباب و جرت حوله أمواج صغيرة خفيفة.

- شيء غريب، متى ركبت هذا القارب؟ كيف وصلت إلى هنا؟ هل فقدت الذاكرة أم أني في كابوس؟ ثم ما السر في هذا القارب؟ أين أشرعته، مجاذفه، محركه.

في هذه اللحظات أخذ الليل يسدل ستائره و ينثر الظلام الدامس. و سرعان ما احتلت العتمة المكان كله. و هو في لباس نمه الأحمر واقف دون حركة العرق يتفصد من جلده و غم غامض استولى على نفسه و إبهام غريب حاصره بقبضته المهتصرة.

تنهى إلى سمعه صخب الأمواج و هدير تصارعها. لكن القارب لم يتحرك ولم يصاحب الهيجان. كأن شيئا مخفيا يمنع الحركة المتناوبة من بلوغه.

جال حوله أملا أن يجد ضوءا خافتا يستنجد به، أي وميض يروض به موجة الفزع المندوحة بداخله، و يزيل عنه فكرة الهلاك الحتمي.

- ماذا أفعل يا رب؟ كيف الخلاص من هذه اللعنة التي اقتادتني إلى هنا؟يجب أن أفعل شيئا.. سأجدف لعله وعساه.

جثى على ركبتيه و ألقى بذارعيه و راح بقوة يجدف. إلا أنه تفطن أن ذراعيه لم تبلغا الماء.

- لا أفهم، لم لم ألمس الماء؟ ماذا يحدث هنا يا ألاه؟

أمعن النظر في ما حوله، غير أنه لم يلمح شيء. الظلام الدامس طمس الرؤية. حتى هدير الموج الهائج صكت فجأة.

- لا صوت.. سبحان الله هل بلع الديجور كل ما حولي؟

بغتة، اجتاحت القارب رجفة هستيريا، كأن زلزالا عنيفا أصابه.ثم هدأ تاركا إياه ملقا على ظهره يقرأ التشهد. ما إن سيطر على نفسه الفزعة و أقدم على الوقوف حتى تنهى إليه ضجيج قوي قادم نحوه من حدب و صوب.

- إنها النهاية .. رحماك رباه..

اضطجع مكبا على وجهه مرددا التشهد.

تجمد في مكانه و كأن ريحا ثلجية سكنت أعضاءه و حولته في ثوان إلى كومة جليد. و تصاعد الضجيج كصيحة جبار و علت على القارب موجة هائلة. دوت قرقعة راعدة و اختفى كل شيء في لحظة.

- حرارة.. صهد.. كأن جسدي يلهب.

فتح عينه مفزوعا. أنوار حادة الرؤؤس وخزتها. استقام في جلسته. جال ببصره فيما حوله مذهولا.

- سبحان الله مازلت حيا.. مازلت حيا أرزق.. لم أغرق.. الموت لم يتمكن مني. لكن.. كيف ..

تطلع إلى المكان بفضول جارف. و خلف تلك العيون الواسعة تزحزح خاطره و تكوم متحفزا يرسل حشدا من الإستفهامات.

فأمامه انصبت أطلال بنايات من عهود غابرة.. صوت الجثث وحده يجول و يصول متباهيا بسلطانه.

انتصب واقفا، و قال بصوت خشن مبحوح، و يده اليمنى في مهل تمسد جبهته المحمرة و تزيل عنها العرق النازف.

- كأني رأيت هذا المنظر من قبل. وجه المدينة ليس غريبا .

أرخى العنان لقدميه باحثا في التفاصيل عن خيط جواب رفيع يفسر له المشهد. الشوارع و الأرصفة الخالية أجاشت فيه مشاعر مؤلمة لم يدر لها سببا أو تفسيرا حتى أدمعت عيناه.مشاعر مرت بأعصابه حادة قاسية و في نفس الوقت لذيذة كأنها تختزل الشعور البشري في خطواته.

لمح في وسط ملتقى الطرقات تمثالا شامخا مرتفعا في السماء كأنه رمز للقوة و الجمال. بلا إرادة ركض نحوه مأخوذا بجاذبيته و سحره . لم ينبس ببنت شفة. أمعن النظر في خطوطه. ثم ما لبث أن اتشح وجهه بالصفرة الباهتة و تجمدت تقاطيعه .

- يا الهي :انه تمثال.. مستحيل.. إنه الأسطورة.

و في محاولة أخرى للتقصي جال حول التمثال. و إذ به يلمح عند قدميه كتابة قديمة بخط مسماري.

- أحرف مسمارية؟ إنه هو..

و إذا بصوت مسكون بالنعاس يطل من الأعلى من فم التمثال ناشدا:

- إلى أين تغد الخطى؟

الحياة التي ترومها لن تجدها،

فالإله حين خلق البشرية،

خلق الموت معها،

و احتفظ بالحياة بين يديه.

البس الزاه من الثياب و الجديد،

ليكن رأسك مغسولا، و استحم في الماء.

ترفق ملتفتا إلى الصغير الذي يمسك بيدك،

لتهنأ زوجتك في رقادها عند صدرك،

فهذه هي بغية البشرية.

و اختفى الصوت، وعاد الصمت لمملكته.. تجمد في مكانه مذهولا. شعر بغرائبية ما يحدث له. بل لا يشك أنه شيطان الكوابيس يهزأ به، يلاعبه بتخيلاته الملتوية.

كل ما يتمناه الآن أن توقظه زوجته.

جثى على ركبتيه و أجهش باكيا

- سئمت من هذه الأحجية الحقيرة التي تطاردني ها هنا. يا الهي لماذا يحدث هذا لي أنا؟ ان كنت في كابوس أيقظني يا رب؟ و إن كنت حقا في يقظة فخلصني مما أنا فيه من لعنة.

دوى صياحه بين الأطلال و انتشر الصدى و غاص في أعماق المدينة الهرمة. و بهدوء رفرف السكون في غبش الفضاء و استحوذ على المدينة من جديد صمت ثقيل.



مغنية 15/12/1992

التسميات: , , , ,

6/04/2010

تنهيدة في شارع الظلام

يسير بوجه غارق في الاغتراب يكفنه السهد، و بين شفتيه سيجارة تلفظ آخر أنفاسها. يسير صامتا يحمل في كفيه آثار الخيبة ،و في عينيه قمرا أسودا أحرقته نار القدر و المكتوب. صامت يضغط بين جدران صدره ظل أمنية ماتت بعد احتضار طويل. يسير بلا هدى في ظلمة الليل الدامسة، في شارع سكنته أشباح الرماد المترعبة بالتيار الثلجي و الضباب الباهت، بعد أن هجرته العيون اليقظة المليئة بالحياة. شارع موغل في مجاهل اليأس و الظنون، موصد الأبواب.
يتقدم بخطوات متثاقلة متثائبة، تتألم من ثقل الجرح الرابض فوقها بلا رحمة. تغمر خواطره خفافيش مصلوبة تلعق دمها، و رغاء عباب لفظه بحره و تنكر له.
إنه لا يدري من أين بدأت الموجة. لماذا انزلق المساء بعد الليل يحمل نعش أمنية لم تر ضوء الطفولة و لا سحر الشواطئ؟ لماذا هبت ريح الفناء و أطفأت الشمعة؟ لماذا غاص القارب في عمق العاصفة و لم يعد؟ لم كل السواد يلوث سماءه هو فقط؟ أجل، لم؟
- ربما لأني عشقت شهرزاد و بلقيس معا. أم لأني رفضت قبلة كليوباترا قبل أن تموت؟
لم يعد يفهم أي شيء.
- أريد أن يسمع العالم صيحتي، لكن صداها لا يتردد إلا في حلقي، فتنهار.
لذا يصمت و يتابع المسير.خيل إليه أن الوقت توقفت عقاربه، حتى بدا أن ليس لليل فجر، و أن الدنيا أعلنت استسلامها للديجور . حتى القمر لم يبزغ في موعده. النجوم هجرت مواقعها، و تعلقت مكانها وطاويط ناعقة ترقب سكون الأرواح المحمولة على ماخور السبات العابر الآن بحار الكوابيس، وسط أنغام سيمفونية الرعب و الموت. حتى المصابيح سكنتها الغربان.
و كطفل سرقت منه لعبه في عيد ميلاده اتكأ على الجدار، و أخذه التأمل في سكير جلس القرفصاء يحدث نفسه عن قارورة الخمر المسترخية بجانبه.عن كل شيء و لا شيء. لكنه عندما انتبه إلى وجوده، أرسل قهقهة و أردف قائلا:
- لماذا تحاصر نفسك بالظلمة يا هذا.. تعال و شاركني سهرتي، فكلانا نبذته الزحمة.. تعال و اشرب معي نخب الاغتراب.. تعال.. إن في الكأس لذة الهروب.. الخمر يا صاحبي وحدها جنة الصعاليك أمثالنا.. لا تخف و اقبل.. الشارع قرب بيننا، نحن ظل واحد لهيكلين لا تعكسهما المرآة.. تعال ، لا تخف.. كلانا من أم واحدة.. كلانا ولد في يوم الخسوف..
غير أنه اكتفى بالإيماءة برأسه .. عيناه الضائعتان بالحزن و الغربة وحدهما كانتا تقولان نعم ،و تعترفان أن لهذا سقطت اللحظة اليانعة من زمانه، هوت في حفرة الذاكرة المنسية.
- أجل لهذا أنا منفي داخل جلدي بهذا الغشاء الكتيم المقفل بالدخان و بخار المآتم.
خفق القرف يتغلغل في مسامه. ألقى لفافته.. سحقها بحذائه الأسود المبلل بالماء القذر، و أشعل لفافة أخرى.
طأطأ رأسه مرخيا العنان لقدميه المتعبتين الثقيلتين، و مضى يشق دهاليز الظلام الحامزية.

مغنية، ديسمبر 1992.

1/16/2010

بكاء تحت المطر

يغازل شعره الشائب، يمرغه في زبد الصابون، يطارد بأصابعه الطويلة الرقيقة القشرة المتخفية بماء المرش. يفتح عينيه اليمنى باحثا عن المشط الصغير..
الماء عروس فتية تداعب جلده المتجعد، تمرر دفأها الحنون فوق أعصابه فتنعسها.
ينظر إلى وجهه اللاصق في المرآة مرتجفا في الضباب.. يتفقد عضلات صدره الأملس فلا يرى غير نتوءات هيكله العظمي..
يتنهد متحسرا كما تنهد ملايين البشر من من مروا من ههنا.. ينبس بصوته المبحوح:
- لم يبق الكثير يا مخلوق، عليك بكتابة وصيتك.
يسحب الكرسي البلاستيكي و يقعد تحت المطر الدافئ مرتخيا كعادته و قد انحصرت رؤيته على صرصور يحاول جاهدا الفلاة من الموت غرقا.. الماء يحمله إلى حتفه في فيه البلوعة.. الا أنه لا يستسلم، يواصل السباحة بكل أطرافه.. لم يعد يفصله عن النهاية إلا سنتمترات..
المشهد يحركه، رغم أنه يمقت الصراصير إلا أنه يرسل قارب النجاة. الصرصور يتعلق بالقارورة و يندفع إلى داخلها سالما.
يغلق القارورة باحكام و يحدث في غطائها ثقوبا للتنفس.
- لن أتركك تموت غرقا ياصرصور لكنني لن أسمح لك بالتسكع ثانية في حمامي أو مطبخي. لقد حكمت عليك بالنفي.
يقف منشرحا .. يغلق الماء.. يجفف جسده.. يخفي بلاه بلباسه الرياضي الأسود.. يضع القنينة في جيب سترته ويقصد المطبخ.
يتناول وجبته الصباحية، قهوة بالحليب و خبز مطلوع بزيت الزيتون الساخن المملح.. يعاين زوجته الواقفة أمامه منهمكة في غسل أواني عشاء البارحة.. يتأمل حركاتها البطيئة و جسدها المكتنز الملفوف بحلة شتوية تجعلها أكثر شبابا في الخامسة و الخمسين.. تلتفت إليه قائلة:
- اتصل بمصطفى، أريد مكالمته.. قلبي مشغول عليه.. منذ أن انتقل لسكنه الجديد انقطعت زيارته..
- لا يزال مشغولا بترتيب حاجياته.. ثم عمله البعيد لا يترك له متسعا من الوقت للزيارة ..
يلقي نظرة من النافذة لشجرة التين العارية وقد حطت على غصنها القريب من النافذة حمامة بيضاء صغيرة..و يتابع متمتما:
- الوقت لم يعد يرحم يمضي مسرعا كأنه مشتاق للنهاية..
- هذا لا يمنعه من مهاتفتنا و السؤال عنا..
- على كل حال نحن من سيتصل.
يسحب محموله من سترته و يتصل.

يرتدي جلابيته الشتوية السوداء.. يحمل مظلته البيضاء القديمة، كل من تبقى له من عمرته الأولى و الأخيرة.. يفتح الباب و يلج الشارع المبلل..
السماء غائمة و الرّيح الباردة يبعثان في صدره نشوة رومانسية لا يعرفها إلا هو..
يعرج على جاره العجوز بائع الجرائد.. يقتني جريدتين.. يمازحه قليلا ثم يرسل خطوه المتزن الثقيل لمقهاه المعتاد..
يتوقف عند مدخل الحديقة الصغيرة و الوحيدة في البلدية..يسحب القنينة .. يقصد شجرة قريبة.. يفتح القنينة و يضعها تحت الشجرة.. يتردد الصرصور قليلا ثم يطل متفقدا المكان و مندفعا صاعد الشجرة..
يتساءل و هو يتابع صعوده إلى أعلى:
- ترى هل ستتكيف مع محيطك الجديد؟
يبتسم مضيفا:
- أجزم أنك ستتعلق بأول مار أو جالس تحت هذه الشجرة.. فأنتم معشر الصراصير طفيليون و لا يروق لكم العيش بعيدا عنا.
يتموضع الصرصور فوق غصن مكشوف يستطلع العالم الجديد، ثم ما يلبث أن يختفي في فجوة قريبة.

الطريق إلى المقهى يبدو له أطول مما كان.. المسافة تتمدد حتى عادت بلا نهاية.. يتساءل لم ينتابه القرف من هذا المسار، من هذا الروتين المسموم الذي أحال أيامه طاحونة هواء مهترئة تدور بلا طحين..
يتوقف فجأة.. ينظر إلى المقهى المكتظ بالزبائن.. ويقرر:
- هذه الصبيحة سأطالع الجريدتين على الشاطئ.. أجل .. الشاطئ.
يشير إلى تاكسي .. يصعد فرحا لهذه المصادفة الجميلة..
- الشاطئ من فضلك..
الطريق إلى الشاطئ لوحة تطغى عليها الوجوه الشاردة و الأياد تتلهى بهواتف محمولة.
لم صارت الدنيا مملة إلى هذا الحدّ؟ هل هي الشيخوخة الزاحفة إليه أم أن الحياة بقدر ما تزينت زادت قسوة. أكيد أنها الدنيا.
يقتعد الصخرة البيضاء.. يواجه الأزرق الشاسع بنفس يستنشق عبق التحرر و الأساطير.. تتراء له الأمواج المتلاطمة بعنفوان و زخم كجبابرة اليونان تتصارع قبل أن تلفظ أنفاسها على هذا الشاطئ الصخري. صيادان في الأربعينات من العمر يجلسان غير بعيد منه ينتظران في هدوء اهتزاز خيطي الصنارتين. الحوار بينهما منعدم ، التركيز مسمر في الطعم الغارق.
بجانبه الأيمن استلقى شاب يجالس فتاة متحجبة و على مقربة منهما صبي يتابع سلعطون بحري. كلّ المشاهد تحيله لدفاتره القديمة و تستدعيه ليقلبها، غير أنه يرسل نظره بعيدا في الأزرق الغاضب.
ترى لو أنطقك الله الآن يا بحر، بم ستبوح؟ أكيد أنك ستلتزم الصمت خشية أن تفقد وهجك و جاذبيتك. أنا لا أنكر عشق لك رغم أنك أذقتني قشعريرة النهاية في العاشرة. هل تذكر؟ أنا لم أنس ملوحتك وهي تخنقني و تفتح لي أبواب البعد الآخر. لم أنس تلك اليد الطرية الرقيقة وهي تسحبني للحياة و تحملني بالقرب من وجهها الملائكي.. هل كانت أنثى بشرية أم ملاك حافظ في صورة أنثى؟
بحث عنها بعد أن عادت لي الحيوية، لكني لم أجدها. قيل لي أنها غادرت رفقة والديها مباشرة بعد الحادثة.
تأسفت كثيرا لأني لم أبلغها شكري الجزيل و امتناني و ظلت لغزا عالقا في مخيلتي.
زخات الثلج تباشر تجوالها حوليه و تصطف فوق شيبه محذرة.. يفتح مظلته و ينهض متمططا.. يجول بنظره في الشاطئ الخالي.. الكل حمل أشياءه و غادر.. الأزرق الهادر يزداد ارتفاعا و اندفاعا.. الرذاذ يبلل جلابيته.. ينظر إلى الساعة..
آه لقد تأخرت! سبحان الله هل مرت ساعتان على تواجدي ههنا؟
يتذكر الجريدتين.. يتفقدهما.. يبصرهما أشلاء عند الموج.. يرسل خطوه عائدا.. يقاطع طريقه عجوز نحيل ملتحفا أغطية شتوية متسخة و هو يتمتم:
- الباب مفتوح..لا تخف لن يلطمك البرد.
يبتسم له مشيرا إلى سيارة طاكسي..
الثلج يزداد هطولا.. الكساء الأبيض يزحف على الأرصفة كما تزحف في عينيه صورة ذاك الشاب السمين و هو يجلس قدامه على الشاطئ و في يده هاتف محمول بكاميرا و قد انشرح ثغره بابتسامة عريضة..
لا أدري من أين نزل ، و هل ظهوره صدفة أم تسلسل أحداث خطها الرب منذ الأزل.. طوق كتفي و قال:
- هل تريد أن ترى عملية إنقاذك من الغرق؟
فابتسمت قائلا:
- طبعا، هل صورتها؟
- أجل، هوايتي تصوير الحوادث لذا لا يفارقني محمولي أبدا.
شغل محموله و أراني الفيديو.. الزمن توقف فجأة، الأصوات خفتت و الرؤية انعدمت إلا من صورتها و هي تغوص و تخرج محملة بي.. لم أصدق أني رأيتها أخيرا.. هي ملاكي الحافظ.. لم أكن أبصر في المشهد إلا هي و كأني أريد أن انسخ صورتها في ذاكرتي.. كانت لا تتعدى الثامنة عشر، ممتلئة، بيضاء البشرة، و شعرها الفاحم ملتصق بوجهها و كتفيها.. سلمتني لرجل الحماية المدنية يقدم إلي الإسعافات الأولية و اختفت..
توقف الفيديو و الكثير من الفرحة و الاستفهامات عالقة برأسي الصغير.. قلت للفتى:
- لقد بحثت عنها البارحة لأشكرها لكني لم أعثر عليها..
- لقد غادروا بعد الحادثة مباشرة.. لكن..
و أخذ يبحث في أفلامه المسجلة..
- أعتقد أني صورت سيارتهم.. نعم.. ها هي..
كانت السيارة من نوع مرسيدس بيضاء قديمة مرقمة برقم الولاية.. تبادلنا الحديث مطولا و لم أتركه إلا بعد نقل الفيلمين لجوالي..
لا أدري كم بلغ عدد المرات التي شاهدت فيها الفيلمين.. المشاهدة استمرت يوميا طوال فصل الصيف و الشتاء حتى حفظت المشاهد عن ظهر قلب..
و مرت السنون كالحلم الجميل سريعة، تخرجت من الجامعة و التحقت بالتعليم.. أمضيت أربع سنوات متنقلا بين الثانويات حتى استقر بي الحال في هذه الثانوية الجديدة خارج المدينة.
منذ الساعة الأولى للخطو فوق إسفلتها انتابتني رعشة لذيذة لم أعلم لها سببا إلا وقت الاستراحة مساءا،حين لمحت وجهها المنشرح الأسارير و خصلات شعرها الفاحم تراقص النسمات المسائية..
هل هذا معقول؟ أكيد أني في حلم يقظة. قلت لنفسي و قد تسمر نظري و توقفت حركتي..
تابعت سيرها مدققا في التفاصيل و ذاكرتي و إحساسي يؤكدان لي صدق الرؤية رغم أنها ثخنت قليلا و جسدها اكتسى بالعمر.
لم أكلمها و اكتفيت بملاحقتها بصريا. و أول من ارتاحت له نفسي من الزملاء المدرسين دسست له استفسارات عن أحوالها الشخصية. لا أنكر أني طرت فرحا حتى كاد يغمى علي حين أبلغني أنها لا زالت عزباء و أنها من بنات المدينة..
و طوال أسبوع لم تفارق صورتها مخيلتي، تحضرني في المنام و في التلفاز ،تتلبس الممثلات و المنشطات، و في الطرقات كل النساء صرن هي.. عدت مسكونا بها..
لم أعد أقاوم رغبة القرب منها، فلملمت كل شجاعتي، و سجنت خجلي بعيدا تحت الأرض، و استحضرت كل حوارات الأفلام الرومانسية لأجد نفسي جالسا بجانبها في قاعة الأساتذة متحججا بطلب مساعدة في ترجمة نص إنجليزي إلى العربية ما دمت تدرس اللغة الإنجليزية..
كانت لبقة، صوتها عطر فواح مسكر.. و بدل أن أستمع إليها رحت أحدثها بصوتي المكتوم مخبرا أن ملمس يديها لا يزال عالقا بجلدي ، و أنها حينما حملتني من الموت حملتها بدوري للتربع على عرش قلبي.
انتبهت لشرودي في تفاصيل وجهها، فابتسمت قائلة:
- أراك مشغول البال.
- آسف..
أغلقت الدفتر و قلت:
- أستسمحك بطرح سؤال و أرجو أن تجيبينني بكل صراحة.
احمر وجهها و قالت:
- تفضل.
- هل حدث و أن أنقذت طفلا من الغرق.
فانكمش ثغرها لغرابة السؤال وقالت:
- يا له من سؤال!
فكرت قليلا ثم أضافت:
- أجل، أنقذت صبيا نحيلا، خدعه تغير مستوى ارتفاع رمال الشاطئ، و لحسن حظه أني انتبهت لغرقه.
فابتسمت:
- كنت متأكدا أني على صواب و أن ذاكرتي لم تخني. و ماذا ستقولين لو قلت لك أني ذك الصبي.
كان وقع المفاجأة ثقيلا عليها قالت:
- مستحيل.
ابتسمت:
- بل أنا ذاك النحيل ها قد أمد الله في عمري و التقيتك لأقول لك بكل صدق شكرا.
لم تتصور سعادتي حين التقت عيناي بعينيها، حينما قرأت قصائد الخجل على وجنتيها، حينما تفتحت شفتاها مبتسمة معلنة في صمت فرحها.
لم أترك لزمن أن ينسحب بعيدا لكي أعلن لك رغبتي في أن أتوج ذاك الشغف بارتباط أبدي. ثلاثة أسابيع كانت كافية لنتبادل ذبل الخطوبة و نمضي عقد القران على أن يتم الزفاف بعد سنة.
كان يوما ممطرا من أيام أكتوبر،لكنه دافئ.لا أدري كيف أتممت الحفلة دون أن أبكي، أن أغسل وجهي بالفرح الجامح بداخلي.اكتفيت أن همست في سمعك بألذ كلمة لفظها البشر:
- هل يكفي العشق عرشا لنا، أم علي أن أصنع من ريش الملائكة لفظا يحوينا؟
ابتسمت، وهمست بدورك:
- يكفي هذا الخاتم و قد نقشت عليه اسمينا.
وضحكنا.
يتوقف التاكسي فيقطع الخيط القديم.. ينزل متثاقلا.يفتح مظلته..يدفع ثمن التوصيلة.. يعاين المقهى أمامه..الزخم و دخان السجائر المتدافع عند البوابة يحثانه على نبذ فكرة القهوة المركزة.. يلقي نظرة إلى المكتبة خلفه فتقفز في حدقتيه صورتها وهي بداخلها تمشي الهوينا بين الرفوف بحثا عن رواية ،و هو بجانبها يستفسر عن عنوانها وهي تتمنع عن الإجابة.
- أريد فقط مساعدتك في البحث؟
فالتفتت إليه وقالت:
- لا تستطيع مساعدتي.
- و لم؟
- لأنها و بكل بساط رواية لم تكتب بعد.
- لا أفهم. قال مستغربا.
فدنت منه حتى كاد أن يلمس أفها أنفه:
- لأنها بكل بساطة رواية حبنا.
احمر خجلا ،وقال لها بعد صمت ثوان:
- إذن سأكتبها لك.
مسكت بيده اليمنى و تمتمت:
- وعد؟
- وعد.
خفت زخات الثلج قليلا ،و هدأت الريح ،و حل هدوء سلس.حدق في السماء المبيضة..أغلق مظلته..و أسلم قدميه للمسير.. لكن صوت عجلات و فرامل أوقفه محدثا ارتفاعا في نبضه و نفسه. استدار متبعا مصدر الجلبة ،غير بعيد عنه اصطدمت سيارة بعمود الإنارة.
المطر سيل عارم نازل من سماء..والظلام حل سريعا ذاك المساء،حتى ظن الخلق أنها النهاية و أن غضب الإله حل على المدينة.. الكل مسرع نحو المأوى.. المقاهي امتلأت ..السيارات تكدست في الطرقات الغارقة.. الشرفات منابر لهواة تصوير الكوارث.. وهو وسط المشهد يشدّ بيدها محاولا قطع الطريق و الوصول إلى الجانب الآخر حيث السلالم و العلو و الأمان.. بذلته الرمادية و حجابها الأزرق أمسيا مرتعا للبلل و الأوحال.
مرّا بين سيارتين متوقفتين هجرهما صاحبهما.. نظر إليها وقد كسا وجهها رعب القيامة.. أحس بانقباض مفاجئ يعصر صدره، ورعشة تسلقته كالأفعى الرقطاء حتى ارتجفت شفتاه. ألقى نظرة إلى أسفل.. الماء بدأ يرتفع، تخطى الركبة و بلغ الحزام.. أعاد نظره إلى الجانب الآخر.. لم يبق بينهما غير أمتار قليلة..
فجأة، دوى هدير كدر غير بعيد قادما من الشارع الآخر.. توقفا و حدقا في اتجاه الصوت، فإذا هي موجة عاتية من السيول قادمة نحوهما.شدّ يدها بقوة و اندفع مفزوعا نحو السلالم،غير أن الموجة لطمتهما و حملتهما في غضبها العارم.
صرخت :
- النجدة.. إني أغرق. و ابتلعت الماء.. وغاصت.
صهر يدها بكل ما تبقى له من قوة، سحبها إليه غير أن الماء حال دونهما، غمرهما و قطع أنفاسهما.. تقاذفهما كالأشلاء الجوفاء في حملته العشواء.
لم أفكر في نجاتي، ولا بما سيحدث لي. كل ما شغل عقلي وقتها و أنا أصارع التيار الجارف أن أسحبك إلي و أحملك فوق كتفي و أقفز بك خارج الموت مثلما فعلت أنت ذات يوم.
تتبعت انجرافك مع الماء و يدي عالقة بيدك بمسامير إلهية لا تنخلع.. سمعت أصواتا تدعوني للتمسك بعمود طويل مدّ أمامي غير بعيد..نظرت من خلال الوحل.. رأيته مثل الملاك الحافظ يدعوني للتعلق به.. صحت :
- يا رب ساعدني.
و رفعت يدي المحررة و أمسكته غارزا في جوفه مخالب الحياة مثلما غرست في يدك أصابعي حتى التحم العظم بالعظم و اللحم باللحم. صرخت و أنا ألحظ إغماءك:
- أسرعوا زوجتي تموت.
ناديتك بكل ما أملك من صوت، غير أنك لبثت هامدة. سحبونا إلى بر الأمان.. تجمهر حولنا المنقذون .. ارتميت على جسدك المرتخي وقد أسدلت عيناك و تناثرت خصلات شعرك الفاحم حواليهما كالغربان الناعقة.. نُحت كالأرملة يوم عزائها.. ضممتك متوسلا أن تعودي.. اعترفت أمامهم أني لا أستطيع الاستمرار دونك.. انتابتني وقتها عاصفة بكاء طوفانية لم أستطع وقفها رغم مواساة المنقذين و دعوات الصبر و الإيمان برحمة الله،حتى فقدت بدوري الوعي و هويت.
الفرحة لم تسعه حينما تعلقت عينه الخارجة من أجفان السبات المرضي بوجهها المطل عليه كالنور السماوي، عذبا، منعشا، محملا بالسكينة. رفع يمناه و لمس خديها ليتأكد من حقيقتها و أنه لا يحلم. ابتسمت و شدت عليها بأصابعها الرقيقة،وقالت:
- حمدا لله على سلامتك.. و اندلقت من عينيها دمعتان خجولة.
- الحمد لله، الحمد لله، أفقت يا حبيبي.. قالت والدته الجالسة بجانبه الأيسر.
حول نظره إلى ولدته ونبس:
- أمي.. وانفجر باكيا.
فقامت إليه أمه معانقة و مواسية.. لم يصدق حينما أبلغوه بإصابته بنزيف داخلي بفعل ارتطامه بشيء صلب و أنه أجريت له عملية عاجلة..

سحب منديله الأبيض و نشف عبراته الصامتة المتسللة في مقلتيه.. ربت رجل الحماية المدنية على كتفه قائلا:
- لا تقلق يا شيخ.. ربي ستر.. إصابته ليست خطيرة.. هل هو من أقاربك.
نظر إليه نافيا و أضاف بحشرجة:
- لكن المشهد محزن.
و مضى في الشارع القليل الحركة يجتر لحظات زفافه ، مبتسما تارة و ضاحكا تارة أخرى حتى خاله جاره جنَّ حين مرّ به دون أن ينتبه إليه.
ولج بيته مبعثرا حوله فرحا موردا وهي تستقبله بقلقها المعتاد و تنفض القطن الشتوي عن كتفيه و شيبه.. مدّ ذراعيه و طوق خصرها .غرس للحظات في حدقتيها حنينا بعمق العمر، و همس:
- أتعلمين؟
- ماذا؟
فتمتم، بعد أن طبع على أنفها الصغير قبلة متيمة:
- اشتقت إلينا يوم التقينا.

التسميات: , , ,