قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

10/29/2010

صوت و صمت


- أين أنا؟ما هذا المكان الغريب؟ كيف حللت هاهنا ؟

الاستغراب حلق به في كهف مسدف لا مخرج له. و الحيرة طوقته بضبابها الكثيف حتى بدا له أن ما يراه لا يخرج عن كونه صنيع سراب. فهل يعقل أن يجد نفسه فوق قارب خشبي قديم و قد جلله الضباب و جرت حوله أمواج صغيرة خفيفة.

- شيء غريب، متى ركبت هذا القارب؟ كيف وصلت إلى هنا؟ هل فقدت الذاكرة أم أني في كابوس؟ ثم ما السر في هذا القارب؟ أين أشرعته، مجاذفه، محركه.

في هذه اللحظات أخذ الليل يسدل ستائره و ينثر الظلام الدامس. و سرعان ما احتلت العتمة المكان كله. و هو في لباس نمه الأحمر واقف دون حركة العرق يتفصد من جلده و غم غامض استولى على نفسه و إبهام غريب حاصره بقبضته المهتصرة.

تنهى إلى سمعه صخب الأمواج و هدير تصارعها. لكن القارب لم يتحرك ولم يصاحب الهيجان. كأن شيئا مخفيا يمنع الحركة المتناوبة من بلوغه.

جال حوله أملا أن يجد ضوءا خافتا يستنجد به، أي وميض يروض به موجة الفزع المندوحة بداخله، و يزيل عنه فكرة الهلاك الحتمي.

- ماذا أفعل يا رب؟ كيف الخلاص من هذه اللعنة التي اقتادتني إلى هنا؟يجب أن أفعل شيئا.. سأجدف لعله وعساه.

جثى على ركبتيه و ألقى بذارعيه و راح بقوة يجدف. إلا أنه تفطن أن ذراعيه لم تبلغا الماء.

- لا أفهم، لم لم ألمس الماء؟ ماذا يحدث هنا يا ألاه؟

أمعن النظر في ما حوله، غير أنه لم يلمح شيء. الظلام الدامس طمس الرؤية. حتى هدير الموج الهائج صكت فجأة.

- لا صوت.. سبحان الله هل بلع الديجور كل ما حولي؟

بغتة، اجتاحت القارب رجفة هستيريا، كأن زلزالا عنيفا أصابه.ثم هدأ تاركا إياه ملقا على ظهره يقرأ التشهد. ما إن سيطر على نفسه الفزعة و أقدم على الوقوف حتى تنهى إليه ضجيج قوي قادم نحوه من حدب و صوب.

- إنها النهاية .. رحماك رباه..

اضطجع مكبا على وجهه مرددا التشهد.

تجمد في مكانه و كأن ريحا ثلجية سكنت أعضاءه و حولته في ثوان إلى كومة جليد. و تصاعد الضجيج كصيحة جبار و علت على القارب موجة هائلة. دوت قرقعة راعدة و اختفى كل شيء في لحظة.

- حرارة.. صهد.. كأن جسدي يلهب.

فتح عينه مفزوعا. أنوار حادة الرؤؤس وخزتها. استقام في جلسته. جال ببصره فيما حوله مذهولا.

- سبحان الله مازلت حيا.. مازلت حيا أرزق.. لم أغرق.. الموت لم يتمكن مني. لكن.. كيف ..

تطلع إلى المكان بفضول جارف. و خلف تلك العيون الواسعة تزحزح خاطره و تكوم متحفزا يرسل حشدا من الإستفهامات.

فأمامه انصبت أطلال بنايات من عهود غابرة.. صوت الجثث وحده يجول و يصول متباهيا بسلطانه.

انتصب واقفا، و قال بصوت خشن مبحوح، و يده اليمنى في مهل تمسد جبهته المحمرة و تزيل عنها العرق النازف.

- كأني رأيت هذا المنظر من قبل. وجه المدينة ليس غريبا .

أرخى العنان لقدميه باحثا في التفاصيل عن خيط جواب رفيع يفسر له المشهد. الشوارع و الأرصفة الخالية أجاشت فيه مشاعر مؤلمة لم يدر لها سببا أو تفسيرا حتى أدمعت عيناه.مشاعر مرت بأعصابه حادة قاسية و في نفس الوقت لذيذة كأنها تختزل الشعور البشري في خطواته.

لمح في وسط ملتقى الطرقات تمثالا شامخا مرتفعا في السماء كأنه رمز للقوة و الجمال. بلا إرادة ركض نحوه مأخوذا بجاذبيته و سحره . لم ينبس ببنت شفة. أمعن النظر في خطوطه. ثم ما لبث أن اتشح وجهه بالصفرة الباهتة و تجمدت تقاطيعه .

- يا الهي :انه تمثال.. مستحيل.. إنه الأسطورة.

و في محاولة أخرى للتقصي جال حول التمثال. و إذ به يلمح عند قدميه كتابة قديمة بخط مسماري.

- أحرف مسمارية؟ إنه هو..

و إذا بصوت مسكون بالنعاس يطل من الأعلى من فم التمثال ناشدا:

- إلى أين تغد الخطى؟

الحياة التي ترومها لن تجدها،

فالإله حين خلق البشرية،

خلق الموت معها،

و احتفظ بالحياة بين يديه.

البس الزاه من الثياب و الجديد،

ليكن رأسك مغسولا، و استحم في الماء.

ترفق ملتفتا إلى الصغير الذي يمسك بيدك،

لتهنأ زوجتك في رقادها عند صدرك،

فهذه هي بغية البشرية.

و اختفى الصوت، وعاد الصمت لمملكته.. تجمد في مكانه مذهولا. شعر بغرائبية ما يحدث له. بل لا يشك أنه شيطان الكوابيس يهزأ به، يلاعبه بتخيلاته الملتوية.

كل ما يتمناه الآن أن توقظه زوجته.

جثى على ركبتيه و أجهش باكيا

- سئمت من هذه الأحجية الحقيرة التي تطاردني ها هنا. يا الهي لماذا يحدث هذا لي أنا؟ ان كنت في كابوس أيقظني يا رب؟ و إن كنت حقا في يقظة فخلصني مما أنا فيه من لعنة.

دوى صياحه بين الأطلال و انتشر الصدى و غاص في أعماق المدينة الهرمة. و بهدوء رفرف السكون في غبش الفضاء و استحوذ على المدينة من جديد صمت ثقيل.



مغنية 15/12/1992

التسميات: , , , ,