قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

4/17/2009

بيضاء الثلج


من بين قصصي الأولى أول الخطو على أرض القصة القصيرة - ذكرى جميلة -


يبحث المرء عن السعادة في أماكن عديدة، ومواقف فريدة، ويخاطر من أجل أن يحصل عليها.. غير أنه لا يجد لروضها أثرا..

ودون علم مسبق يجد نفسه فجأة أمامها ، وجها لوجه ، و السبب مجهول... ربما ذلك راجع لانجلاء ضباب الأنانية الكثيفة التي تغلف سلوكياته ، أو وبكل بساطة إنه القدر..

فتختلط عليه الأمور ، فلا يدري ماذا يفعل؟ يحتار في أمره وتغزوه استفهامات صعب أن يجد لها جوابا.. و وقت أن ترتب الفطنة أوراقه يجدها ضاعت من بين يديه..

وهذا ما حدث لك فعلا.. فبعد أن فقدت الأمل ، و بالصدفة عثرت أخيرا عن الحب..لكن، في خمرة الانتشاء اختطفت منك.

و هاأنت تقبع في مقعد القيادة تخرق بمركبتك الفضاء الخارجي بسرعة الضوء في رحلة غايتها الوحيدة استرجاع أميرتك الضائعة..

ولمجرد سماع صوتها العذب الرقيق يرن في أذنيك تستيقظ ذكرياتك لتعيدك برفق وحنان إلى أيامك السعيدة ، إلى أيامك السعيدة ، إلى تلك اللحظة التي مرت برفقتها بعد أن خلصتها من براثين كتائب الموت..

كانت تستهوي بصرك.. تثير عواطفك..توقظ حنانك المتواري خلف أسوار الرجولة القاسية..

فتاة كالحلم المهرب ، في مقتبل العمر ، منذ صغرها يتمتها وشردتها ثعابين المدينة المتوحشة.. فتاة عبرت كل معابر الحياة المحاصرة بالنار و الدم في صراعها من أجل البقاء ، في كفاحها من أجل تجد قصور السعادة الكامنة خلف جبال الضباب..

إنه صوتها العزيز عليك ، صوتها المحمل بأوجاع فقدها..

كان ذلك في أواخر أيام شهر سبتمبر الجليدية، و أنت تلج فندق " الربيع" بالمستوطنة الأرضية الخامسة بعد الألف التابعة لجبهة الدفاع عن البشرية.. رأيتها جالسة إلى مائدة المقهى ، مستندة بها ورأسها بين كفيها في شرود..

دنوت منها ، أمسكت برفق كتفيها ، و مشطت شعرها الأشقر بحنان ، وأنت تلفظ أحرف اسمها:

- نور ، خشيت من أن لا أجدك..

فالتفتت إليك و قد تجمهرت بلورات الدمع في مقلتيها ، وقالت في تلعثم:

- عمر ، خشيت ألا تأتي في موعدك، فأخبار الحرب تتوارد كالشؤم هذه الأيام..

فقلت مبتسما:

- الشؤم نفسه غير قادر على أن يؤخرني عن مواعيدي معك.

أخذت موضعك أمامها ، وناجيتها قائلا:

- أتدرين أن بهذا اليوم يكون قد مرّ على لقائنا الأول سنة كاملة.. هل تتصورين.. سنة..

فقالت برقة مختنقة:

- هذا صحيح الأيام تمرّ بسرعـــــــــــ......

غير أن انفعالا شديدا حبس كلماتها، و أسلمها غنيمة سهلة للبكاء..

فقلت مستفسرا و كفك تحتضن يدها اللدينة:

  • ما يبكيك؟

فرنت إليك بنظرات عذبة متلألئة ، وقالت:

  • إن إحساسا غريبا ينتابني..يشعرني أن هذا اليوم ربما سيكون آخر يوم أراك فيه..

سادت جسدك رعشة لا تخطئها العين، وقلت مستغربا:

  • ماذا تقولين؟

فقالت، وهي تمسح دموعها، مؤكدة:

  • علمت أنك تستعد للسفر إلى المريخ..

فقلت ، وقد افتر ثغرك عن ضحكة لطيفة:

  • أهذا ما يبكيك؟ إذن فل تعلمي أن ذلك صحيح لكن هذه المرة و أنت معي يانور.. هل سمعت ؟ و أنت معي..

فأشرب صوتها نغمة الفرح ، وقالت ، وهي تدني وجهها الصافي منك:

  • أ صحيح ما تقول؟

  • نعم يا حبيبتي سترحلين معي.. سنرحل معا إلى عالم لا يحكمه غير سلطان الحب و الخير ، عالم لا مكان فيه للحقد و المكائد.. سأنتزعك من هذا الوجود الغارق في الوحل و الدم..

كم كانت فرحتها عظيمة وهي تسمع كلماتك تلك ، كيف لا و أنت لأول مرة تناديها بحبيبتي .. لم تتمالك نفسها وارتمت في حضنك و شدت كيانك بقوة كأنها تخشى ضياعك..

قالت:

  • أنا سعيدة يا عمر، نعم، سعيدة سعيدة... لقد ساورتني هواجس الفراق ، خشيت من أن ترحل دوني، أن تتركني للموت بعد أن وعيت معنا للحياة معك.. حياتي أصبحت أنت..

كلماتها كالبلسم تمسد جراحك ، تغازل داخلك فتثلجه و تنثر فوق قسمات خذيك قطرات حارة من الماء المالح تجعل لحظتك تلك أجمل و أطول..

غير أن بين الأمنيات و الواقع مسافة شاسعة من المستنقعات الآسنة و الوحوش الضارية المتربصة لكل ما هو جميل..

فإعصار الرماد هب الحين مباغتة.. جنود كتائب الموت من كل حدب ينسلون، تزعق أصواتهم الراعدة و تومض رشاشات الليزر بعنف ، و تدوي انفجارات القنابل في كل جانب.. شظايا القذائف و البشر تتساقط كالمطر الأسود ، و الأنفس العزلاء تتصايح فارة بجلدها..

من هول الموقف صعدت نور كلمات كانت تهتز في جوفها قبل أن تملأ سمعك:

  • يا الهي ، من أين تسلل هؤلاء الشياطين؟

فقلت و يسارك تشد بقوة يدها اليمنى المرتعشة في صمت:

  • إنها الخديعة، قالوا إن الهدنة ستستمر سنة أخرى ، الأوغاد ، عادوا ليقضوا على ما تبقى من الجنس البشري بعد أن أبادت الأمراض المعدية و الكوارث الطبيعية المتمردة على الجشع الإنساني العدد الكثير..

سحبت مسدسك الإشعاعي من غمده استعدادا لأي طارئ .. ولدقائق بقيتما ملتصقين بجدار المبنى الداخلي ترقبان الفرصة السانحة للحركة .. فالملجأ في الحي المجاور و المركبة هناك في المستودع..

بعد ثوان صمت و تفكير التفتت أليها و قلت بحزم:

  • هل أنت مستعدة لمسابقة الموت ..

فهزت رأسها الصغير المنتشرة على سحنته سمات الخوف الباهت..و كالريح العاتية انطلقتما تجوبان الممرات الملتوية حتى وصلتما أخيرا إلى الحي..

التسميات: