قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

6/04/2010

تنهيدة في شارع الظلام

يسير بوجه غارق في الاغتراب يكفنه السهد، و بين شفتيه سيجارة تلفظ آخر أنفاسها. يسير صامتا يحمل في كفيه آثار الخيبة ،و في عينيه قمرا أسودا أحرقته نار القدر و المكتوب. صامت يضغط بين جدران صدره ظل أمنية ماتت بعد احتضار طويل. يسير بلا هدى في ظلمة الليل الدامسة، في شارع سكنته أشباح الرماد المترعبة بالتيار الثلجي و الضباب الباهت، بعد أن هجرته العيون اليقظة المليئة بالحياة. شارع موغل في مجاهل اليأس و الظنون، موصد الأبواب.
يتقدم بخطوات متثاقلة متثائبة، تتألم من ثقل الجرح الرابض فوقها بلا رحمة. تغمر خواطره خفافيش مصلوبة تلعق دمها، و رغاء عباب لفظه بحره و تنكر له.
إنه لا يدري من أين بدأت الموجة. لماذا انزلق المساء بعد الليل يحمل نعش أمنية لم تر ضوء الطفولة و لا سحر الشواطئ؟ لماذا هبت ريح الفناء و أطفأت الشمعة؟ لماذا غاص القارب في عمق العاصفة و لم يعد؟ لم كل السواد يلوث سماءه هو فقط؟ أجل، لم؟
- ربما لأني عشقت شهرزاد و بلقيس معا. أم لأني رفضت قبلة كليوباترا قبل أن تموت؟
لم يعد يفهم أي شيء.
- أريد أن يسمع العالم صيحتي، لكن صداها لا يتردد إلا في حلقي، فتنهار.
لذا يصمت و يتابع المسير.خيل إليه أن الوقت توقفت عقاربه، حتى بدا أن ليس لليل فجر، و أن الدنيا أعلنت استسلامها للديجور . حتى القمر لم يبزغ في موعده. النجوم هجرت مواقعها، و تعلقت مكانها وطاويط ناعقة ترقب سكون الأرواح المحمولة على ماخور السبات العابر الآن بحار الكوابيس، وسط أنغام سيمفونية الرعب و الموت. حتى المصابيح سكنتها الغربان.
و كطفل سرقت منه لعبه في عيد ميلاده اتكأ على الجدار، و أخذه التأمل في سكير جلس القرفصاء يحدث نفسه عن قارورة الخمر المسترخية بجانبه.عن كل شيء و لا شيء. لكنه عندما انتبه إلى وجوده، أرسل قهقهة و أردف قائلا:
- لماذا تحاصر نفسك بالظلمة يا هذا.. تعال و شاركني سهرتي، فكلانا نبذته الزحمة.. تعال و اشرب معي نخب الاغتراب.. تعال.. إن في الكأس لذة الهروب.. الخمر يا صاحبي وحدها جنة الصعاليك أمثالنا.. لا تخف و اقبل.. الشارع قرب بيننا، نحن ظل واحد لهيكلين لا تعكسهما المرآة.. تعال ، لا تخف.. كلانا من أم واحدة.. كلانا ولد في يوم الخسوف..
غير أنه اكتفى بالإيماءة برأسه .. عيناه الضائعتان بالحزن و الغربة وحدهما كانتا تقولان نعم ،و تعترفان أن لهذا سقطت اللحظة اليانعة من زمانه، هوت في حفرة الذاكرة المنسية.
- أجل لهذا أنا منفي داخل جلدي بهذا الغشاء الكتيم المقفل بالدخان و بخار المآتم.
خفق القرف يتغلغل في مسامه. ألقى لفافته.. سحقها بحذائه الأسود المبلل بالماء القذر، و أشعل لفافة أخرى.
طأطأ رأسه مرخيا العنان لقدميه المتعبتين الثقيلتين، و مضى يشق دهاليز الظلام الحامزية.

مغنية، ديسمبر 1992.