قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

1/16/2010

بكاء تحت المطر

يغازل شعره الشائب، يمرغه في زبد الصابون، يطارد بأصابعه الطويلة الرقيقة القشرة المتخفية بماء المرش. يفتح عينيه اليمنى باحثا عن المشط الصغير..
الماء عروس فتية تداعب جلده المتجعد، تمرر دفأها الحنون فوق أعصابه فتنعسها.
ينظر إلى وجهه اللاصق في المرآة مرتجفا في الضباب.. يتفقد عضلات صدره الأملس فلا يرى غير نتوءات هيكله العظمي..
يتنهد متحسرا كما تنهد ملايين البشر من من مروا من ههنا.. ينبس بصوته المبحوح:
- لم يبق الكثير يا مخلوق، عليك بكتابة وصيتك.
يسحب الكرسي البلاستيكي و يقعد تحت المطر الدافئ مرتخيا كعادته و قد انحصرت رؤيته على صرصور يحاول جاهدا الفلاة من الموت غرقا.. الماء يحمله إلى حتفه في فيه البلوعة.. الا أنه لا يستسلم، يواصل السباحة بكل أطرافه.. لم يعد يفصله عن النهاية إلا سنتمترات..
المشهد يحركه، رغم أنه يمقت الصراصير إلا أنه يرسل قارب النجاة. الصرصور يتعلق بالقارورة و يندفع إلى داخلها سالما.
يغلق القارورة باحكام و يحدث في غطائها ثقوبا للتنفس.
- لن أتركك تموت غرقا ياصرصور لكنني لن أسمح لك بالتسكع ثانية في حمامي أو مطبخي. لقد حكمت عليك بالنفي.
يقف منشرحا .. يغلق الماء.. يجفف جسده.. يخفي بلاه بلباسه الرياضي الأسود.. يضع القنينة في جيب سترته ويقصد المطبخ.
يتناول وجبته الصباحية، قهوة بالحليب و خبز مطلوع بزيت الزيتون الساخن المملح.. يعاين زوجته الواقفة أمامه منهمكة في غسل أواني عشاء البارحة.. يتأمل حركاتها البطيئة و جسدها المكتنز الملفوف بحلة شتوية تجعلها أكثر شبابا في الخامسة و الخمسين.. تلتفت إليه قائلة:
- اتصل بمصطفى، أريد مكالمته.. قلبي مشغول عليه.. منذ أن انتقل لسكنه الجديد انقطعت زيارته..
- لا يزال مشغولا بترتيب حاجياته.. ثم عمله البعيد لا يترك له متسعا من الوقت للزيارة ..
يلقي نظرة من النافذة لشجرة التين العارية وقد حطت على غصنها القريب من النافذة حمامة بيضاء صغيرة..و يتابع متمتما:
- الوقت لم يعد يرحم يمضي مسرعا كأنه مشتاق للنهاية..
- هذا لا يمنعه من مهاتفتنا و السؤال عنا..
- على كل حال نحن من سيتصل.
يسحب محموله من سترته و يتصل.

يرتدي جلابيته الشتوية السوداء.. يحمل مظلته البيضاء القديمة، كل من تبقى له من عمرته الأولى و الأخيرة.. يفتح الباب و يلج الشارع المبلل..
السماء غائمة و الرّيح الباردة يبعثان في صدره نشوة رومانسية لا يعرفها إلا هو..
يعرج على جاره العجوز بائع الجرائد.. يقتني جريدتين.. يمازحه قليلا ثم يرسل خطوه المتزن الثقيل لمقهاه المعتاد..
يتوقف عند مدخل الحديقة الصغيرة و الوحيدة في البلدية..يسحب القنينة .. يقصد شجرة قريبة.. يفتح القنينة و يضعها تحت الشجرة.. يتردد الصرصور قليلا ثم يطل متفقدا المكان و مندفعا صاعد الشجرة..
يتساءل و هو يتابع صعوده إلى أعلى:
- ترى هل ستتكيف مع محيطك الجديد؟
يبتسم مضيفا:
- أجزم أنك ستتعلق بأول مار أو جالس تحت هذه الشجرة.. فأنتم معشر الصراصير طفيليون و لا يروق لكم العيش بعيدا عنا.
يتموضع الصرصور فوق غصن مكشوف يستطلع العالم الجديد، ثم ما يلبث أن يختفي في فجوة قريبة.

الطريق إلى المقهى يبدو له أطول مما كان.. المسافة تتمدد حتى عادت بلا نهاية.. يتساءل لم ينتابه القرف من هذا المسار، من هذا الروتين المسموم الذي أحال أيامه طاحونة هواء مهترئة تدور بلا طحين..
يتوقف فجأة.. ينظر إلى المقهى المكتظ بالزبائن.. ويقرر:
- هذه الصبيحة سأطالع الجريدتين على الشاطئ.. أجل .. الشاطئ.
يشير إلى تاكسي .. يصعد فرحا لهذه المصادفة الجميلة..
- الشاطئ من فضلك..
الطريق إلى الشاطئ لوحة تطغى عليها الوجوه الشاردة و الأياد تتلهى بهواتف محمولة.
لم صارت الدنيا مملة إلى هذا الحدّ؟ هل هي الشيخوخة الزاحفة إليه أم أن الحياة بقدر ما تزينت زادت قسوة. أكيد أنها الدنيا.
يقتعد الصخرة البيضاء.. يواجه الأزرق الشاسع بنفس يستنشق عبق التحرر و الأساطير.. تتراء له الأمواج المتلاطمة بعنفوان و زخم كجبابرة اليونان تتصارع قبل أن تلفظ أنفاسها على هذا الشاطئ الصخري. صيادان في الأربعينات من العمر يجلسان غير بعيد منه ينتظران في هدوء اهتزاز خيطي الصنارتين. الحوار بينهما منعدم ، التركيز مسمر في الطعم الغارق.
بجانبه الأيمن استلقى شاب يجالس فتاة متحجبة و على مقربة منهما صبي يتابع سلعطون بحري. كلّ المشاهد تحيله لدفاتره القديمة و تستدعيه ليقلبها، غير أنه يرسل نظره بعيدا في الأزرق الغاضب.
ترى لو أنطقك الله الآن يا بحر، بم ستبوح؟ أكيد أنك ستلتزم الصمت خشية أن تفقد وهجك و جاذبيتك. أنا لا أنكر عشق لك رغم أنك أذقتني قشعريرة النهاية في العاشرة. هل تذكر؟ أنا لم أنس ملوحتك وهي تخنقني و تفتح لي أبواب البعد الآخر. لم أنس تلك اليد الطرية الرقيقة وهي تسحبني للحياة و تحملني بالقرب من وجهها الملائكي.. هل كانت أنثى بشرية أم ملاك حافظ في صورة أنثى؟
بحث عنها بعد أن عادت لي الحيوية، لكني لم أجدها. قيل لي أنها غادرت رفقة والديها مباشرة بعد الحادثة.
تأسفت كثيرا لأني لم أبلغها شكري الجزيل و امتناني و ظلت لغزا عالقا في مخيلتي.
زخات الثلج تباشر تجوالها حوليه و تصطف فوق شيبه محذرة.. يفتح مظلته و ينهض متمططا.. يجول بنظره في الشاطئ الخالي.. الكل حمل أشياءه و غادر.. الأزرق الهادر يزداد ارتفاعا و اندفاعا.. الرذاذ يبلل جلابيته.. ينظر إلى الساعة..
آه لقد تأخرت! سبحان الله هل مرت ساعتان على تواجدي ههنا؟
يتذكر الجريدتين.. يتفقدهما.. يبصرهما أشلاء عند الموج.. يرسل خطوه عائدا.. يقاطع طريقه عجوز نحيل ملتحفا أغطية شتوية متسخة و هو يتمتم:
- الباب مفتوح..لا تخف لن يلطمك البرد.
يبتسم له مشيرا إلى سيارة طاكسي..
الثلج يزداد هطولا.. الكساء الأبيض يزحف على الأرصفة كما تزحف في عينيه صورة ذاك الشاب السمين و هو يجلس قدامه على الشاطئ و في يده هاتف محمول بكاميرا و قد انشرح ثغره بابتسامة عريضة..
لا أدري من أين نزل ، و هل ظهوره صدفة أم تسلسل أحداث خطها الرب منذ الأزل.. طوق كتفي و قال:
- هل تريد أن ترى عملية إنقاذك من الغرق؟
فابتسمت قائلا:
- طبعا، هل صورتها؟
- أجل، هوايتي تصوير الحوادث لذا لا يفارقني محمولي أبدا.
شغل محموله و أراني الفيديو.. الزمن توقف فجأة، الأصوات خفتت و الرؤية انعدمت إلا من صورتها و هي تغوص و تخرج محملة بي.. لم أصدق أني رأيتها أخيرا.. هي ملاكي الحافظ.. لم أكن أبصر في المشهد إلا هي و كأني أريد أن انسخ صورتها في ذاكرتي.. كانت لا تتعدى الثامنة عشر، ممتلئة، بيضاء البشرة، و شعرها الفاحم ملتصق بوجهها و كتفيها.. سلمتني لرجل الحماية المدنية يقدم إلي الإسعافات الأولية و اختفت..
توقف الفيديو و الكثير من الفرحة و الاستفهامات عالقة برأسي الصغير.. قلت للفتى:
- لقد بحثت عنها البارحة لأشكرها لكني لم أعثر عليها..
- لقد غادروا بعد الحادثة مباشرة.. لكن..
و أخذ يبحث في أفلامه المسجلة..
- أعتقد أني صورت سيارتهم.. نعم.. ها هي..
كانت السيارة من نوع مرسيدس بيضاء قديمة مرقمة برقم الولاية.. تبادلنا الحديث مطولا و لم أتركه إلا بعد نقل الفيلمين لجوالي..
لا أدري كم بلغ عدد المرات التي شاهدت فيها الفيلمين.. المشاهدة استمرت يوميا طوال فصل الصيف و الشتاء حتى حفظت المشاهد عن ظهر قلب..
و مرت السنون كالحلم الجميل سريعة، تخرجت من الجامعة و التحقت بالتعليم.. أمضيت أربع سنوات متنقلا بين الثانويات حتى استقر بي الحال في هذه الثانوية الجديدة خارج المدينة.
منذ الساعة الأولى للخطو فوق إسفلتها انتابتني رعشة لذيذة لم أعلم لها سببا إلا وقت الاستراحة مساءا،حين لمحت وجهها المنشرح الأسارير و خصلات شعرها الفاحم تراقص النسمات المسائية..
هل هذا معقول؟ أكيد أني في حلم يقظة. قلت لنفسي و قد تسمر نظري و توقفت حركتي..
تابعت سيرها مدققا في التفاصيل و ذاكرتي و إحساسي يؤكدان لي صدق الرؤية رغم أنها ثخنت قليلا و جسدها اكتسى بالعمر.
لم أكلمها و اكتفيت بملاحقتها بصريا. و أول من ارتاحت له نفسي من الزملاء المدرسين دسست له استفسارات عن أحوالها الشخصية. لا أنكر أني طرت فرحا حتى كاد يغمى علي حين أبلغني أنها لا زالت عزباء و أنها من بنات المدينة..
و طوال أسبوع لم تفارق صورتها مخيلتي، تحضرني في المنام و في التلفاز ،تتلبس الممثلات و المنشطات، و في الطرقات كل النساء صرن هي.. عدت مسكونا بها..
لم أعد أقاوم رغبة القرب منها، فلملمت كل شجاعتي، و سجنت خجلي بعيدا تحت الأرض، و استحضرت كل حوارات الأفلام الرومانسية لأجد نفسي جالسا بجانبها في قاعة الأساتذة متحججا بطلب مساعدة في ترجمة نص إنجليزي إلى العربية ما دمت تدرس اللغة الإنجليزية..
كانت لبقة، صوتها عطر فواح مسكر.. و بدل أن أستمع إليها رحت أحدثها بصوتي المكتوم مخبرا أن ملمس يديها لا يزال عالقا بجلدي ، و أنها حينما حملتني من الموت حملتها بدوري للتربع على عرش قلبي.
انتبهت لشرودي في تفاصيل وجهها، فابتسمت قائلة:
- أراك مشغول البال.
- آسف..
أغلقت الدفتر و قلت:
- أستسمحك بطرح سؤال و أرجو أن تجيبينني بكل صراحة.
احمر وجهها و قالت:
- تفضل.
- هل حدث و أن أنقذت طفلا من الغرق.
فانكمش ثغرها لغرابة السؤال وقالت:
- يا له من سؤال!
فكرت قليلا ثم أضافت:
- أجل، أنقذت صبيا نحيلا، خدعه تغير مستوى ارتفاع رمال الشاطئ، و لحسن حظه أني انتبهت لغرقه.
فابتسمت:
- كنت متأكدا أني على صواب و أن ذاكرتي لم تخني. و ماذا ستقولين لو قلت لك أني ذك الصبي.
كان وقع المفاجأة ثقيلا عليها قالت:
- مستحيل.
ابتسمت:
- بل أنا ذاك النحيل ها قد أمد الله في عمري و التقيتك لأقول لك بكل صدق شكرا.
لم تتصور سعادتي حين التقت عيناي بعينيها، حينما قرأت قصائد الخجل على وجنتيها، حينما تفتحت شفتاها مبتسمة معلنة في صمت فرحها.
لم أترك لزمن أن ينسحب بعيدا لكي أعلن لك رغبتي في أن أتوج ذاك الشغف بارتباط أبدي. ثلاثة أسابيع كانت كافية لنتبادل ذبل الخطوبة و نمضي عقد القران على أن يتم الزفاف بعد سنة.
كان يوما ممطرا من أيام أكتوبر،لكنه دافئ.لا أدري كيف أتممت الحفلة دون أن أبكي، أن أغسل وجهي بالفرح الجامح بداخلي.اكتفيت أن همست في سمعك بألذ كلمة لفظها البشر:
- هل يكفي العشق عرشا لنا، أم علي أن أصنع من ريش الملائكة لفظا يحوينا؟
ابتسمت، وهمست بدورك:
- يكفي هذا الخاتم و قد نقشت عليه اسمينا.
وضحكنا.
يتوقف التاكسي فيقطع الخيط القديم.. ينزل متثاقلا.يفتح مظلته..يدفع ثمن التوصيلة.. يعاين المقهى أمامه..الزخم و دخان السجائر المتدافع عند البوابة يحثانه على نبذ فكرة القهوة المركزة.. يلقي نظرة إلى المكتبة خلفه فتقفز في حدقتيه صورتها وهي بداخلها تمشي الهوينا بين الرفوف بحثا عن رواية ،و هو بجانبها يستفسر عن عنوانها وهي تتمنع عن الإجابة.
- أريد فقط مساعدتك في البحث؟
فالتفتت إليه وقالت:
- لا تستطيع مساعدتي.
- و لم؟
- لأنها و بكل بساط رواية لم تكتب بعد.
- لا أفهم. قال مستغربا.
فدنت منه حتى كاد أن يلمس أفها أنفه:
- لأنها بكل بساطة رواية حبنا.
احمر خجلا ،وقال لها بعد صمت ثوان:
- إذن سأكتبها لك.
مسكت بيده اليمنى و تمتمت:
- وعد؟
- وعد.
خفت زخات الثلج قليلا ،و هدأت الريح ،و حل هدوء سلس.حدق في السماء المبيضة..أغلق مظلته..و أسلم قدميه للمسير.. لكن صوت عجلات و فرامل أوقفه محدثا ارتفاعا في نبضه و نفسه. استدار متبعا مصدر الجلبة ،غير بعيد عنه اصطدمت سيارة بعمود الإنارة.
المطر سيل عارم نازل من سماء..والظلام حل سريعا ذاك المساء،حتى ظن الخلق أنها النهاية و أن غضب الإله حل على المدينة.. الكل مسرع نحو المأوى.. المقاهي امتلأت ..السيارات تكدست في الطرقات الغارقة.. الشرفات منابر لهواة تصوير الكوارث.. وهو وسط المشهد يشدّ بيدها محاولا قطع الطريق و الوصول إلى الجانب الآخر حيث السلالم و العلو و الأمان.. بذلته الرمادية و حجابها الأزرق أمسيا مرتعا للبلل و الأوحال.
مرّا بين سيارتين متوقفتين هجرهما صاحبهما.. نظر إليها وقد كسا وجهها رعب القيامة.. أحس بانقباض مفاجئ يعصر صدره، ورعشة تسلقته كالأفعى الرقطاء حتى ارتجفت شفتاه. ألقى نظرة إلى أسفل.. الماء بدأ يرتفع، تخطى الركبة و بلغ الحزام.. أعاد نظره إلى الجانب الآخر.. لم يبق بينهما غير أمتار قليلة..
فجأة، دوى هدير كدر غير بعيد قادما من الشارع الآخر.. توقفا و حدقا في اتجاه الصوت، فإذا هي موجة عاتية من السيول قادمة نحوهما.شدّ يدها بقوة و اندفع مفزوعا نحو السلالم،غير أن الموجة لطمتهما و حملتهما في غضبها العارم.
صرخت :
- النجدة.. إني أغرق. و ابتلعت الماء.. وغاصت.
صهر يدها بكل ما تبقى له من قوة، سحبها إليه غير أن الماء حال دونهما، غمرهما و قطع أنفاسهما.. تقاذفهما كالأشلاء الجوفاء في حملته العشواء.
لم أفكر في نجاتي، ولا بما سيحدث لي. كل ما شغل عقلي وقتها و أنا أصارع التيار الجارف أن أسحبك إلي و أحملك فوق كتفي و أقفز بك خارج الموت مثلما فعلت أنت ذات يوم.
تتبعت انجرافك مع الماء و يدي عالقة بيدك بمسامير إلهية لا تنخلع.. سمعت أصواتا تدعوني للتمسك بعمود طويل مدّ أمامي غير بعيد..نظرت من خلال الوحل.. رأيته مثل الملاك الحافظ يدعوني للتعلق به.. صحت :
- يا رب ساعدني.
و رفعت يدي المحررة و أمسكته غارزا في جوفه مخالب الحياة مثلما غرست في يدك أصابعي حتى التحم العظم بالعظم و اللحم باللحم. صرخت و أنا ألحظ إغماءك:
- أسرعوا زوجتي تموت.
ناديتك بكل ما أملك من صوت، غير أنك لبثت هامدة. سحبونا إلى بر الأمان.. تجمهر حولنا المنقذون .. ارتميت على جسدك المرتخي وقد أسدلت عيناك و تناثرت خصلات شعرك الفاحم حواليهما كالغربان الناعقة.. نُحت كالأرملة يوم عزائها.. ضممتك متوسلا أن تعودي.. اعترفت أمامهم أني لا أستطيع الاستمرار دونك.. انتابتني وقتها عاصفة بكاء طوفانية لم أستطع وقفها رغم مواساة المنقذين و دعوات الصبر و الإيمان برحمة الله،حتى فقدت بدوري الوعي و هويت.
الفرحة لم تسعه حينما تعلقت عينه الخارجة من أجفان السبات المرضي بوجهها المطل عليه كالنور السماوي، عذبا، منعشا، محملا بالسكينة. رفع يمناه و لمس خديها ليتأكد من حقيقتها و أنه لا يحلم. ابتسمت و شدت عليها بأصابعها الرقيقة،وقالت:
- حمدا لله على سلامتك.. و اندلقت من عينيها دمعتان خجولة.
- الحمد لله، الحمد لله، أفقت يا حبيبي.. قالت والدته الجالسة بجانبه الأيسر.
حول نظره إلى ولدته ونبس:
- أمي.. وانفجر باكيا.
فقامت إليه أمه معانقة و مواسية.. لم يصدق حينما أبلغوه بإصابته بنزيف داخلي بفعل ارتطامه بشيء صلب و أنه أجريت له عملية عاجلة..

سحب منديله الأبيض و نشف عبراته الصامتة المتسللة في مقلتيه.. ربت رجل الحماية المدنية على كتفه قائلا:
- لا تقلق يا شيخ.. ربي ستر.. إصابته ليست خطيرة.. هل هو من أقاربك.
نظر إليه نافيا و أضاف بحشرجة:
- لكن المشهد محزن.
و مضى في الشارع القليل الحركة يجتر لحظات زفافه ، مبتسما تارة و ضاحكا تارة أخرى حتى خاله جاره جنَّ حين مرّ به دون أن ينتبه إليه.
ولج بيته مبعثرا حوله فرحا موردا وهي تستقبله بقلقها المعتاد و تنفض القطن الشتوي عن كتفيه و شيبه.. مدّ ذراعيه و طوق خصرها .غرس للحظات في حدقتيها حنينا بعمق العمر، و همس:
- أتعلمين؟
- ماذا؟
فتمتم، بعد أن طبع على أنفها الصغير قبلة متيمة:
- اشتقت إلينا يوم التقينا.

التسميات: , , ,