قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

10/08/2009

الوليمة



أمتهن الصمت، مهنة الأذكياء. هكذا قيل ، و إن كنت أصرح في صمت أني ربما أكون أغبى الخلق.اسمي أكيد مسجل في موسوعة جينس للأرقام القياسية..

أمتهن المشي العبثي الانفرادي، عزلة الموتى.كل من رآني تأسف لما آل إليه حالي ، ورسم على قسمات وجهه التحسر.

- مسكين..انهارت أعصابه.. من كان يظن ذلك.

هذا ما يقولونه كلما مررت عليهم مهرولا أعد مربعات بلاط الأرصفة المتسخة. أو مروا هم بي و أنا قاعد على ذلك الكرسي الحجري البارد المنزوي تحت الظل في حديقة البلدية القديمة.. أجمل ما تبقى من تخطيط الكلون.

لقد ألفوا رؤيتي جالسا هنا ألاعب الأوراق الميتة أو أراقب الحشرات المنهمكة في جمع قوتها.. اليوم غيرت عادتي ، جلبت معي رواية حنا مينة ″الشراع و العاصفة″ و أطلقت مخيلتي الجامحة للتيه بين صفحاتها.

لا أدري لما تزعجني الذكرى و تلتصق ببعضها في طابور طويل تنتظر دورها في البوح كلما قلبت ورقة.. الحارس القائم و المتجهم لم يعد يسمح لها بالاقتراب .أغلق كل الأبواب.. كم هو مطيع..

فالتذكر منبع للألم و الحنين المرّ، للبكاء.. ما عاد يستهويني النحيب على الأطلال و لا مغازلة لو و رفيقاتها مهما تبرجن لي و تمخطرن أمامي.. هي القطيعة مع الماضي و المستقبل..كل ما عاد يستهويني الآني و لا زيادة.

يقتعد بجانبي الأيمن شيخ ببذلة زرقاء قديمة و ربطة عنق حمراء ممزقة الأطراف، يفرقع أصابع يده اليسرى بلا توقف ، يلقي تارة إلي و تارة أخرى إلى الكتاب نظرات متفاوتة في المدة و قد انشرح ثغره على ابتسامة تكتم تحية و سلاما.

و أنا من جهتي أختلس النظر إليه برؤيتي الجانبية الحادة.. لا أنكر انه أفلح في قطع خيط الوصال بيني و بين الشراع و العاصفة و أسلمني إلى تأمل السماء و تتبع غيمة صغيرة غطت الشمس لثوان..تراءت لي كخبزة مطلوع صغيرة تفوح رائحة و دفئا.

- ياه، كم اشتقت للمطلوع مع التين الصباحي الطازج أو قطعة هندية باردة..

نظرت إلى الشيخ القصير و أرسلت كفي اليمنى تتحرى كم من فكة بقيت في جيب سروال الجنز البني الجديد..أعثر على مائة دينار .. قطعتان بقيمة عشرين دينارا، و قطعة بقيمة خمسين دينارا ،و قطعتان صغيرتان من فئة خمسة دنانير..

ابتسمت، و قلت لشيخ المبتسم:

- المبلغ يكفي لخبزة مطلوع و رطل هندية..

هز الشيخ رأسه موافقا.

- هل تشعر بالجوع؟

فهز الشيخ مؤكدا..

- حسنا انتظرني هنا ، سأعود .

و سلمته الرواية، و اندفعت إلى محل بيع الخضر و المواد الغذائية المقابل للحديقة.. قطعت الطريق دون أن ألتفت يمينا و شمالا.. سيارة جولف فرمت و زمجرت و أنا كعادتي ماض بلا توقف مهرولا غير مكترث بما حولي..

البائع السعيد برؤيتي يسائلني عن سبب قطيعتي لمحله، لم أعد زبونا دائما.

- ياه، عاش من رآك يرجل..كيف الحال؟

- الحمد لله..كم ثمن الهندية؟ سألته و عيناي مسمرتان بصندوق الهندية العامر.

- بمائة دينار للكيلوغرام.

- و المطلوع ؟

- خمسة و عشرون دينارا..

- حسنا.. زن لي رطل هندية و لف لي مطلوعة..

- كما تحب، ما يكون غير خاطرك يا سي عبد الله.

يد البائع تنتقل منتقية أجود الحبات و أنا أراقبها بفرح مُرعش ارتجفت له شفتاي و أصابع يدي اليسرى.

قبضت الكيسين و سلمت الفكة و قلت له قبل أن أغادر:

- هل أجد عندك خنجرا من ما تبقى من الفكة؟

فأجاب وهو يعانقني:

- لك كل شيء متوفر.

انطلقت إلى الكرسي الحجري و رغبة جامحة في تلذذ الهندية مغلفة بقطعة مطلوع تدفعني كالريح المرسلة، مخلفا خلفي فرامل تزمجر و سب و شتم و تهديد بالضرب المبرح.

اقتعدت الكرسي تاركا بيني و بين صاحبي العجوز المبتسم مسافة مددت عليها الوليمة.. قسمت المطلوعة نصفين، سلمت النصف للشيخ المبتسم و خفقت في تقشير الهندية و وضعها في الكيس البلاستيكي بيننا..الأشواك لم تعد تخيفك، لم تعد تؤلمك و هي تُغرز في جلدك الخدر . و الشيخ لا يزال يحتفظ بابتسامته و صمته كل ما زاد أن فمه اشتغل بهضم الخبز و الهندية.

استرخيت في جلستي و أرسلت نظري إلى أعراف الشجرة أمامي أتابع عصفورا يغرد بلا ملل .

الصمت أحاطني برفق حتى خفقت أجفاني تستقبل وفود الرقاد. لكن صوت الشيخ المبتسم نبهني. فالتفت إليه و هو يمد يده اليمنى لي وقد حملت بمائة دينار حديدية قائلا:

- لم أشبع يا ولدي هل اقتنيت لنا المزيد لكن لو تفضلت عوض الهندية بالتين الأبيض..