قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

5/29/2008

ومضات -قصص قصيرة جدا -


الولادة
تصيحين..تبكين.. الألم لا يرحم.. لا يرأف بجسدك النحيل.. تشدين الحبل بحرارة و أياد متوترة تمسح عرقك و دموعك.. كل المناشير اجتمعت على أعصابك تنشرها.. تقتربين من بوابة الأخرى، لكنك تتراجعين و ترجعين.. يعيدك بكاء طفلك الوليد..

العجوز
يقتعد كرسيه الخشبي المتأرجح.. يحمل سَبحته البنية القديمة.. يرتخي محدقا في قافلة الغيوم الراحلة بلا هم.. يردد في خشوع تسبيحاته.. يحول نظره إلى زوجته العجوز و هي تروي ضمأ نباتاتها المنزلية و تتفحص أوراقها الطرية..
يبتسم قليلا ثم يكركر:
- إيه، يا حورية لقد شخت..

الفراغ
جمعت قواي و ما بقي لذي من شجاعة و انتصبت واقفا.. نفسي يكاد ينقطع.. الجرح النازف من كتفي يلعن الرصاصة الخارقة.. الرشاش الروسي لفظ أغلب ذخيرته و العمارة المقصوفة هناك تبدو بعيدة، و ما بيننا مسافة من نار و دم و الكثير من الجثث.. لم يعد معي من يساندني، كلهم ارتحلوا.. أفكر.. أتردد قليلا ثم انطلق في الظلام الحالك، في الفراغ.

السقوط
الأصوات المتوحشة خلفه تعوي.. تنحدر نحوه قدرا مشؤما لا يرحم.. وهو في وجله أيلا مطاردا يهرول في الغابة بلا بوصلة .. فقط يركض بكل ما أوتي من نفس و طاقة.. بذلته الوحيدة تمزقت وأمست مرتعا للأشواك و النبتات المسننة..لم يلتفت، لم يصيح.. كل ما يصر عليه حاليا أن يصل إلى الاسمنت ..لكنه وصل لمنحدر.. لواد سحيق ..و الأصوات الجائعة خلفه ما زالت تهدر.. تتكور نحوه ..
لم يفكر طويلا بل اختزل كل التفكير في قرار واحد.. نظر خلفه.. لأول مرة منذ أن أفلت ينظر وراءه، التفت ثانية و حدق في الفراغ إلى العمق المظلم و هلل ثلاثا مرفقات بالتشهد.. أغمض عينيه و قفز ..كل ما أحس به وهو يرتطم باليابسة برودة البلاط و هي توقظه.


الانعتاق
فتح عينيه اليابستين فجأة.. حملق إلى السقف بانبهار.. لم يكن هناك سقف، كانت هناك غمامة ووجوه غريبة.. عيناه الجاضتان تسمرتا على الوجوه الغريبة و أذناه أصغيتا السمع لأصوات قريبة كتمت أصوات أخرى بعيدة.. كل كيانه تسمر مطاعا لتلك الأصوات و هي توشوش له، تخافته، تستدعيه، تدعوه للإنعتاق و تمد إليه الأيادي.. يستجيب للإغراء ويمد يديه ..يلامس أسطحا لم يلامس مثلها من قبل و لم يجد لملمسها وصفا فقط دفأ عجيبا يغزوه كلية.. و بغتة تسحبه إليها.. خلعته من ما كان، جثة هامدة على سرير حقير.

5/19/2008

بركة النور


- 1 -

السابع أوت.

تستيقظ.. تفرك عينيك بمهل.. تحمد الله على بعثك الجديد.. تتمطط بنشوة.. تتثاءب.. تمسد عضلاتك المرتخية.. تنفض عنك بقايا حلم مورق..

العتمة عبد أسود يغتسل في العراء.. تمد يدك اليمنى، توقظ المصباح، نوره يهتك عري زوجتك..

الحر شديد ، الصيف هذا العام رهيب.. غرفة نومك فرن مغلق..

الساعة تخبرك أنها الرابعة صباحا.. الديك غير بعيد يصيح .. انه الفجر.. تتململ.. تقتعد السرير.. تلقي نظرة خاطفة على زوجتك.. تنحني إلى وجهها.. تقبله.. تمسح عرق جبهتها.. تنتعل نعلك المطاطي.. أعصابك مشدودة.. تطرطق فقرات رقبتك بمتعة.. تقف مكررا وريد الصبح.. تتمطط مرة أخرى..تخرج.

الليل الشاجي يأكل ذيله.. تقصد الحمام.. تتعود من الخبث و الخبائث..الماء الدافئ يندلق من المرش منعشا، يرخي جسدك، يطهرك.. الماء الدافئ يغرسك في بحيرة استوائية، يناغيك، يمسد أعصابك بحنان عاشق متيم.. كم يحلو لك الاستحمام فجرا..

الأذان يعلو.. الصلاة خير من النوم.. الله أكبر.. تتمتم دعاء الأذان.. تتوضأ في نشاط.. تلتقط المنشفة تمسح الماء قليلا.. ترتدي عباءتك البيضاء المخططة.. تحمد الله على الطهارة..

النعاس سافر الآن بعيد.. لم يبق منه غير خيط رهيف تحت الحدقتين..

تتجه إلى مكتبك، مصلاك.. كل الأشياء في الفناء العاري يختفي، يغطس في بركة نور ساطع يأخذ بصرك، يغريك بكل الانفعالات.

المفاجأة العجيبة نصل حاد يشرحك في مهل. لا تصدق ما يحدث.. تجمدت في مكانك فاغر الثغر.. كل الاستفهامات احتشدت في ذهنك.. لم تتوقع هذه الكرامة.. هكذا فكرت.. تحدث لك أنت بذات..

دون تفكير معمق تخر ساجدا، قلبك يعد نبضه الراكض مسابقا نفسك بعناد.. تدع بخشوع قلق:

- اللهم انك.. انك.. عفو.. عفو تحب العفو فأعفو عني..

- دموع متحررة انعتقت كالسيل تبلل ذقنك الصغير، ترويك ملحا شهيا، تكبت كلماتك، تخنقها..

- اللهم إني أسألك لطفك و الجنة و أستغفرك من كل ما يبعدني عنها من قول وعمل.. من قول وعمل..

كأنك في فراغ.. البلاط تحتك انكمش، اختفى.. كل الأحزان و الآلام توارت في القاع.. طمأنينة سابغة طفحت كالريشة في الهواء و تعالت بك..

أنت الآن ريشة في الأثير.. الزمن توحد في نقطة الإشراق و تمدد إلى ما لا نهاية.. صوت متثائب يسألك في استغراب:

- ماذا دهاك يا رجل؟ أتصلي بلا سجادة؟

لم ترد، بقيت في الموقع تكرر الدعاء في خشوع تام باكيا..

تقترب منك زوجتك النصف عارية، شعرها الأشقر المشعث يتلألأ تحت ضوء المصباح المصفر. الاندهاش المخلل بالخوف يطل من قسماتها و شفتيها الصغيرتين بلا حياء..

- ما بك يا يزيد؟

تمد يدها، تربت على كثفك.. تهزك.. تعيدك ..ببطء تهزك.. أخيرا ترفع رأسك.. تقتعد البلاط.. الماء يبلل وجهك.. تتطلع لما حولك في انبهار مسبحا..

الخوف تمكن من دواخل زوجتك، ارتابت، شكت في مس حل بك. ليس من عادتك الصلاة في الفناء العاري و بدون سجادة. ماذا حل بك تستفسر المسكينة.

ترفع نظرك إلى وجهها الداني منك في شحوب.. تمد جدعك إليها متنهنها.. تجثو أمامك.. تحتضنك بدفء.. لا تتمالك نفسها.. شعلتها أخذت تخبو ببطء.. ذهنها يقرأ في عجل كل مصاب جلل.. غلالة ماء رقيقة ترجرجت في مقلتيها، تحيرت..

قالت في ارتجاف:

- أعيذك بكلمات الله التامات من كل شيطان و هامة، أعيذك من كل شر عين لامة..

نبست ببحة:

- ما ذرأ الله لي غير الخير يا بشرى!

قالت مستغربة:

- إذن ما بك، قلي بالله عليك.

قلت:

- فتح الله لي باب السماء.. أكرمني، أكرمني..

و أجهشت بالبكاء..

الانشراح انداح على وجنتيها و قالت:

- هذا أمر يدعو للفرح و ليس للبكاء.

قلت:

- إنها دموع الحمد يا عزيزتي، دموع الحمد على النعمة..

الجمل تزوقت بكل البهارج، حامت بكل التهاني و الحمد، طوقتك بالأكاليل.

- 2 -

السابع أوت..

المنبه يرن..

صوت ناعس يدق صمت الغرفة..

- يزيد استيقظ موعد صلاة الفجر آن..

الكون يكركر على الحيطان..

- يزيد.. يا حاج انهض، ستفوتك صلاة الجماعة..

الجمود يطوق السرير.. القلق يزعج النفس.. تململت الزوجة.. التفتت إليك.. هزتك..

صراخ جبار يعرج مبعثرا تفاصيل الصمت.. بكاء كامد يفرش أسماله السوداء بجانب الأذان يمخر ليل المدينة النائمة على الرمل في عري..