قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

5/19/2008

بركة النور


- 1 -

السابع أوت.

تستيقظ.. تفرك عينيك بمهل.. تحمد الله على بعثك الجديد.. تتمطط بنشوة.. تتثاءب.. تمسد عضلاتك المرتخية.. تنفض عنك بقايا حلم مورق..

العتمة عبد أسود يغتسل في العراء.. تمد يدك اليمنى، توقظ المصباح، نوره يهتك عري زوجتك..

الحر شديد ، الصيف هذا العام رهيب.. غرفة نومك فرن مغلق..

الساعة تخبرك أنها الرابعة صباحا.. الديك غير بعيد يصيح .. انه الفجر.. تتململ.. تقتعد السرير.. تلقي نظرة خاطفة على زوجتك.. تنحني إلى وجهها.. تقبله.. تمسح عرق جبهتها.. تنتعل نعلك المطاطي.. أعصابك مشدودة.. تطرطق فقرات رقبتك بمتعة.. تقف مكررا وريد الصبح.. تتمطط مرة أخرى..تخرج.

الليل الشاجي يأكل ذيله.. تقصد الحمام.. تتعود من الخبث و الخبائث..الماء الدافئ يندلق من المرش منعشا، يرخي جسدك، يطهرك.. الماء الدافئ يغرسك في بحيرة استوائية، يناغيك، يمسد أعصابك بحنان عاشق متيم.. كم يحلو لك الاستحمام فجرا..

الأذان يعلو.. الصلاة خير من النوم.. الله أكبر.. تتمتم دعاء الأذان.. تتوضأ في نشاط.. تلتقط المنشفة تمسح الماء قليلا.. ترتدي عباءتك البيضاء المخططة.. تحمد الله على الطهارة..

النعاس سافر الآن بعيد.. لم يبق منه غير خيط رهيف تحت الحدقتين..

تتجه إلى مكتبك، مصلاك.. كل الأشياء في الفناء العاري يختفي، يغطس في بركة نور ساطع يأخذ بصرك، يغريك بكل الانفعالات.

المفاجأة العجيبة نصل حاد يشرحك في مهل. لا تصدق ما يحدث.. تجمدت في مكانك فاغر الثغر.. كل الاستفهامات احتشدت في ذهنك.. لم تتوقع هذه الكرامة.. هكذا فكرت.. تحدث لك أنت بذات..

دون تفكير معمق تخر ساجدا، قلبك يعد نبضه الراكض مسابقا نفسك بعناد.. تدع بخشوع قلق:

- اللهم انك.. انك.. عفو.. عفو تحب العفو فأعفو عني..

- دموع متحررة انعتقت كالسيل تبلل ذقنك الصغير، ترويك ملحا شهيا، تكبت كلماتك، تخنقها..

- اللهم إني أسألك لطفك و الجنة و أستغفرك من كل ما يبعدني عنها من قول وعمل.. من قول وعمل..

كأنك في فراغ.. البلاط تحتك انكمش، اختفى.. كل الأحزان و الآلام توارت في القاع.. طمأنينة سابغة طفحت كالريشة في الهواء و تعالت بك..

أنت الآن ريشة في الأثير.. الزمن توحد في نقطة الإشراق و تمدد إلى ما لا نهاية.. صوت متثائب يسألك في استغراب:

- ماذا دهاك يا رجل؟ أتصلي بلا سجادة؟

لم ترد، بقيت في الموقع تكرر الدعاء في خشوع تام باكيا..

تقترب منك زوجتك النصف عارية، شعرها الأشقر المشعث يتلألأ تحت ضوء المصباح المصفر. الاندهاش المخلل بالخوف يطل من قسماتها و شفتيها الصغيرتين بلا حياء..

- ما بك يا يزيد؟

تمد يدها، تربت على كثفك.. تهزك.. تعيدك ..ببطء تهزك.. أخيرا ترفع رأسك.. تقتعد البلاط.. الماء يبلل وجهك.. تتطلع لما حولك في انبهار مسبحا..

الخوف تمكن من دواخل زوجتك، ارتابت، شكت في مس حل بك. ليس من عادتك الصلاة في الفناء العاري و بدون سجادة. ماذا حل بك تستفسر المسكينة.

ترفع نظرك إلى وجهها الداني منك في شحوب.. تمد جدعك إليها متنهنها.. تجثو أمامك.. تحتضنك بدفء.. لا تتمالك نفسها.. شعلتها أخذت تخبو ببطء.. ذهنها يقرأ في عجل كل مصاب جلل.. غلالة ماء رقيقة ترجرجت في مقلتيها، تحيرت..

قالت في ارتجاف:

- أعيذك بكلمات الله التامات من كل شيطان و هامة، أعيذك من كل شر عين لامة..

نبست ببحة:

- ما ذرأ الله لي غير الخير يا بشرى!

قالت مستغربة:

- إذن ما بك، قلي بالله عليك.

قلت:

- فتح الله لي باب السماء.. أكرمني، أكرمني..

و أجهشت بالبكاء..

الانشراح انداح على وجنتيها و قالت:

- هذا أمر يدعو للفرح و ليس للبكاء.

قلت:

- إنها دموع الحمد يا عزيزتي، دموع الحمد على النعمة..

الجمل تزوقت بكل البهارج، حامت بكل التهاني و الحمد، طوقتك بالأكاليل.

- 2 -

السابع أوت..

المنبه يرن..

صوت ناعس يدق صمت الغرفة..

- يزيد استيقظ موعد صلاة الفجر آن..

الكون يكركر على الحيطان..

- يزيد.. يا حاج انهض، ستفوتك صلاة الجماعة..

الجمود يطوق السرير.. القلق يزعج النفس.. تململت الزوجة.. التفتت إليك.. هزتك..

صراخ جبار يعرج مبعثرا تفاصيل الصمت.. بكاء كامد يفرش أسماله السوداء بجانب الأذان يمخر ليل المدينة النائمة على الرمل في عري..


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية