قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

9/05/2009

اللوحة - قصة متسلسة


-1-

اللحن الرومانسي يغازل اللون، ينعش مرسمك الصغير. يحاول جاهدا إنبات فرحة صغيرة بين شقوق سقفه المتآكل بفعل القدم و الرطوبة.
النور الدافئ المتسلل من النافذة المفتوحة على الضجيج يتسلق الجدران الملطخة بالألوان القاتمة. يكشف لوحات حزينة متراصة كالأيتام الجياع فوق الموقد و على الأرض الإسمنتية الباردة، و يفضح عري كنبة عبثت بها الفئران، و اختبأت في وكر بجدار الباب.
و أنت بمئزرك البني الترابي تقف أمام الحامل في حالة سكر و ذهول تموقع خطوطا جديدة لخارطة الإنسان المشرد على هذا القماش القديم.
الريشة تتحرك و نيئة. تكسر عمودها أحالها عجوزا تلملم أيامها الأخيرة.
تبعد أهدابها عن القماش، و تغرقه في شعرك الشائب الأشعث. تخربش إهابك بلطف.
عيناك الجاحظتان تتطلعان في التفاصيل باستفهام دائم يحاول استشراف الخط الآتي.
شفتاك المحتجبتان خلف شاربك الكثيف و ذقنك العتيق تنتشيان بدفء رشفة قهوة. تبلل جوفك الخاوي،و ترعش أعصابك المتفوزة. ساعة الحائط الفخارية المغبرة تعلن برنينها المتثائب حلول الثانية.
تتوقف للحظات مبتعدا خطوة إلى خلف، تتأمل التفاصيل، تتسأل في نفسك:
- أشياء كثيرة تنقص.. الفكرة المرجوة لم تتضح بعد.. الألوان لا تفشي سرها..
تحتار الكلمات في جوفك، تهتز، تضطرب.. تسحب كرسيك الخشبي الهزاز وراءك.. صريره يزعجك قليلا..تقتعد بتوتر.. تفرك ذقنك.. تعظ ساق ريشتك.. تؤلمها.. تصيح:
- الذنب ليس ذنبي.. العيب في تلافيف دماغك، في عضل قلبك.. العيب عيبك.
الكرسي الهزاز يهدهدك،يواسيك:
- لا تقلق.. تأمل جيدا اللوحة.. التعبير المناسب سيتشكل عاجلا أم آجلا.. استنطق إلهامك، الكل معك، كل طاقتك الخلاقة، و ستصل إلى اللوحة الغاية..
تتساءل و كفاك متعانقان فوق رأسك، يحاصرانه، يعتصرانه:
- ماذا يتقصها يا ترى؟ ماذا يلزمك يا فلذة الروح لتفصحي عن آهات هذا العجوز العالم؟ لماذا الابتكار الممكن ؟ كيف السبيل لتحقيق الأمنية؟
الصمت يلفك.. اللحن الغجري يتوقف.. نحلة مستطلعة تحوم حولك.. تحاول فك الطلسم مكانك.. تقرأ الفنجان لك.. تخبرك أن الخروج من البئر العميق ممكن يكفيك رؤية الحبل المدلى و الرؤية تحتاج لجهد و إمعان نظر.
تمد يدك.. تحمل الفنجان.. تقطر قطرة في فمك.. القطرة باردة و مرة.. تحب القهوة المرة.. القهوة السوداء المرة.. في بعض الأحيان تضيف إليها نقاطا خجولة من الحليب، من البياض.
تقف.. تقبل على اللوحة.. توقع خطا صغيرا.. تتردد في الإضافة.. اللون لا يريحك.. تبتعد قيلا.. تتأوه.. اللوحة الحلم تبدو لك مستحيلة.. كل المدارس تتزاحم في ذهنك.. بيكاسو يدافع دالي و اسياخم يسابق دينه.. الخط يوازي الفراغ..
تدخن بشغف، بهذيان..
- ماذا دهاك يا عدنان؟ لم هجرك إلهامك في منتصف الطريق؟ لم تركك وحيدا في قلب الصحراء تبحث عن دبوس شفاف؟
تسلم تفكيرك للذهاب و الإياب.. تارة مطأطأ و أخرى رافعا رأسك إلى السقف المتحير.
إنها الثالثة..
مسارك يطول.. يفتح صدره للتخمين اللولبي.. الخطوط تَسطر، تَوازي عقارب الساعة..
إنها الرابعة..
النافذة حقل تجارب يضج بالنور و الحرارة، بالصخب البشري.. خانتك مَلهمتك يا فنان.. لعبت معك لعبتها المعهودة.. ذهبت مَخلفة ريشتك في عزلة قاتلة..
تقصد المسجلة.. تغيير الشريط.. تحمل إطار صورة زوجتك و طفلتك الصغيرة.. تبتسم.. تبتسمان لك في فرح.. عيونهما تواسيك.. ألحان عمر خيرت تبدد السكون.. تحملك بمهل خارج اللحظة.. توقع راحة نفسية و فكرية قصيرة..
الصورة جميلة، حنونة.. تعيد الإطار إلى مكانه.. تقصد الكنبة اليتيمة، تستلقي.. تتأمل السقف المتآكل.. تبادله حوارا صامتا مكثفا..
الساعة تخبرك: إنها الخامسة و النصف..
غفوت يا عدنان، التعب تمكن منك..
تقتعد، تتمطط في تثاؤب لذيذ.. تحدق في حامل اللوحة، في الساعة.. تقصد كرسيك الهزاز.. تجلس.. تسحب النضد الصغير.. تملأ الفنجان قهوة باردة.. تشعل السيجارة.. تبادل اللوحة التأمل..
حامل اللوحة يبدو لك بعيدا بعيدا..
تفكر عينيك، بصرك يخدعك.. ما وراء اللوحة يبهت.. شيء ما يحدث.. المكان يتغير..
انفجار ضوء ينقشع خلف حامل اللوحة.. يطمس بصرك.. يباغتك.. يفزعك.. تفتح عينيك.. تجويف حلزوني معتم حل خلف الحامل.. انه ينفتح، يفغر فكيه، يجذبك بقوة كالمغنطيس.. تقاوم.. يبتلعك بيسر.. لم يدع لك الفرصة للصراخ، لطلب النجدة..
تغوص في الفراغ، في العتمة.. تحاول الصراخ، صوتك أبكم.. المسافة بينك و بين مرسمك اتسعت.. مرسمك استحال نقطة ثم ظلمة..
انك تسبح في الفراغ، في الديجور..
لكن كيف يمكن حدوث ذلك؟ كيف؟ هذا غير معقول، هذا جنون،تخريف.. أكيد أني أحلم، التعب أنعسني، إني في كابوس، لا شك في ذلك..
هاتف جمهوري يلعن:
- كلا، ما حدث حقيقة يا عدنان.. أنت الآن في العالم الثاني..
و حلّ الصمت ثقيلا رهيبا..
لم تصدق سمعك.. حرت في جواب الهاتف الغريب.. إنه صدمة، صاعقة حارقة أحالتك رمادا مبعثرا..
- إذن مت.. أنا الآن في ذمة الله.. مستحيل.. الموت أمر آخر.. أحاسيس أخرى.. الموت سيناريو مختلف كلية عن هاته المشاهد؟
كل الأفكار عجزت عن التفسير، فقدت بوصلتها الاتجاه.. كل المشاعر تكومت و شكلت هيكلا للرّهبة و الحيرة.. هيكلك يتشقلب بلا قيد في الخواء، غائصا في زمن الصفر مابين السقوط و المعراج..
تحاول السيطرة على حركتك.. تحلم توازنك.. تتموضع في حالة الطياران.. الأمام ظلام.. تحدق.. تحصر حدقتيك في بؤرة بارقة انقشعت في الوسط.. إنها تتسع تتسع.. الظلام انجلى و ترك مكانه للبياض.. ألوان تتشكل كالدوامة.. تغوص في الدوامة.. تغوص و تغوص، و الغوص مغص شديد في أمعائك.. ارتجاف في أعضائك، كهرباء تسري في دمك..سرعة تسارعك تزداد تزداد.. الألوان تتدرج تتدرج.. صداع لا يحتمل يعتصر دماغك، يفقدك وعيك.. يغمى عليك..

يتبع........>>>

التسميات: , , , , , , , , ,

2 تعليقات:

في 1:08 ص , Anonymous غير معرف يقول...

شكرا للستخدامك لوحتي في كتابتك الجميلة ولتصحيح مسمى لوحة (لوحة التفكير ) لـ(هند الغامدي)

 
في 10:24 م , Blogger Mohammed Arbouz يقول...

لا شكر على واجب أخت هند، بل أجدني ممتنا لك باطلالتك المبدعة على مدونتي و هي تشريف أعتز به..
دمت مبدعة تغازل اللون فينطاع لريشتها عذبا رقيقا.

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية