قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

9/13/2009

اللّوحة - الحلقة الثانية -

ترفع جفنيك المثقلين.. ضوء خافت متسلل من فرجات صغيرة بين أوراق رمادية فاتحة ينبهك.. يدعوك للقيام.. إنك مسجى فوق صخرة سوداء مفلطحة على شكل دائرة..
تقتعد الصخرة في ذهول، تعاين المكان..الأعشاب الاستوائية، و التربة بصخرها اكتسوا بتدرجات الرمادي، كأن الغابة بقية حريق كرّ منذ أيام..
أصخيت السمع طويلا.. صوت واحد يتردد صداه، إنه صفير الريح يتخلل الأعراف الباسقة..
مكثت على حالك مذهولا، لا تجد ما تقوله، و لا ما تفعله.. حرت في الأمر.. كلّ المشاعر اختلطت و اختفت خلف اللاشعور.. الزمن بداخلك توقف، عقاربه حَبست عند إشارة الاستفهام و التعجب.. استنكفت عن الحركة، عن المضي في الممشى التربي الزاحف كالحية خلال الأشجار و التخوم..
أخذك التخمين بعيدا حيث الحكمة القائلة أن فهم السبب يتم بالبحث و ليس بالعجب..
صمت..
الكابوس يدق الناقوس.. رماديا بدأ، غريبا يشرح لك اللامعقول، و اللامعقول مخطوط عتيق مبعثر أمامك..
تفرك عينيك.. تدقق النظر.. لم يسبق أن عانيت من الرؤية الواهمة، من الخيالات.. الكل حولك مجسم بأبعاده الثلاث و البعد الرابع كذلك..
ساعة يدك هناك في المرسم.. المرسم بعيد.. مخفي خلف العتمة أو ما بعد العتمة..
هل أتحرك و أمضي، أم أبقى قابعا فوق هذه الصخرة أنتظر الإشارة و العودة؟ أم لحظة اليقظة؟ أكيد أني أغفو..
تضحك بصمت..
تنغز دماغك للمرة الرابعة.. تسأله الجواب المقنع.. إنه عاجز.. تقتنع أنه عاجز.. كيف يمكن تفسير اللامعقول؟
هل أتحرك و أمضي في الممشى؟ فلأفعل، ربما وجدت من يشرح لي؟
تتحرك، تقفز من على الصخرة، و تمضي في الممشى الأفعى.. الغابة الرمادية تطوى خلفك دون صوت سوى حفيف الأوراق و زقزقات بعيدة..
تقف هنيهة، تذكرت سيجار( أفراز).. تسحب الولاعة من جيب سروالك المتسخ باللون.. تشهق دخانا ساخنا و تواصل المضي في الآتي.. تدخن كي لا يقع رأسك.. هكذا تمزح دائما..
الطريق، الغابة و الفراغ.. يبدو لك أنك تمشي بلا تقدم و أن المسافة تزداد في الأمام و تنقص في الخلف..
الوقت حمل قناعه الثاني و انتحى ركنا يترصدك.. عبأ دقاته بالفراغ و الأسئلة و زرعها حولك..
تلقي اللفافة.. تسرع الخطو.. هضبة تسكن الأفق تدعوك لامتطائها.. تُسرِع الخطو و الأمل.. تأتي إلى الأفق.. تركض.. تقف.. تلوي عنقك يمينا و شمالا.. تنظر.. سور شامخ يقف أمامك متحديا عنيدا.. حاجز يواري مجال الرؤية.. بوابة صغيرة تخترقه..
تسأل أي طريق أسلك اليمين أم الشمال أم أجتاز عتبة الجدار..
الإعياء يدعوك للراحة.. تتكئ على الجذع شجرة.. تشعل لفافة، و تسلم عقلك للتخمين، للصمت و الارتباك..
تلوي عنقك يمينا.. ممشى يخترق الرماد.. تلوي عنقك شمالا.. ممشى يصاحب الرماد.. تتطلع إلى مدخل الجدار.. تتعلق عيناك به.. شيء ما بداخلك ينصحك بالدخول.. التوتر يربك أعصابك، ينغزها بشدة..
تهمهم:
- أعتقد أن ساعة المغامرة و المجازفة آن أوانها.. علي أن أحزم الخوف و أرفع الحاجز عن ذئابي.. أن أتركها و لو لمرة تقتنص فرائسها في الهضاب المحروسة، أن أدربها على ملاقاة الصدفة..
تعب نفسا طويلا.. تلقي عقب اللفافة.. و تندفع بأوتار مشدودة متفوزة هاتفا:
- بسم الله، على الله توكلت و به استعنت و إليه لجأت.. شدّ حيلك يا بطل..
انحنيت و دخلت.. العتمة صدمتك.. الدهليز إبتلعك ثم لفظك مرا..
انتصبت.. وقفت متأملا و قلت:
- مستحيل، جدران داخل جدران..
فركت ذهنك، تفطنت، هتفت:
- إنها متاهة.. يا اللّه إنها متاهة..
- الحيطان الحجرية عالية يستحيل تسلقها لاكتشاف ممر النجاة.. لابد إذن من المشقة، من حث الخطى بين الممرات من الاعتماد على حدسك، على ذكائك، على مهارتك في حلّ الوكاء..
تترك الوصاية لقدميك.. تجتاز المنعرج الأول.. تجتاز الدهليز الثاني.. الثالث.. الرابع.. تتحرك كالأفعى بلسان ينضنض.. تتسلل عبر الممرات المتفرعة بلا انقطاع..
لون الجدران و الأرضية خفقا يتبدلان، يتدرجان نحو البني..
قدماك توخزانك، الإعياء سكنهما منذ فترة.. العرق يتفصد من كلّ كيانك..تيار ريح ساخن يحثو التراب في عينيك.. البرق في الأعلى يومض.. يتبعه رعد شديد..
تتفقد السماء، كتل ملبدة حاصرتها عنوة.. المطر يتساقط زخات زخات.. المطر يضاف إلى الديكور الموحش، يوقع حضوره بنوتاته الصاخبة، يحرمك من متعة سيجارة أخرى..
يبدو لك أن الأشياء تحالفت عليك في هذا الوجود اللامعقول، و اللامعقول هنا معقول.. إنها مأساة غريبة..
تحفز جسدك المبلل.. تتقدم في الممرات المتقاطعة الملتوية..
أمازلت تعتقد أن ما تحياه كابوس من ابتكار الشيطان الرجيم؟ لعبة ساخرة يهزأ بها منك؟ يعلم هو أنك تحب أفلام الفنتازيا و الخيال العلمي.. يعلم هو أنك معجب بألف ليلة وليلة و إبداعات السرياليين.. لذاك جاءت كوابيسه غريبة عجيبة..
و ها أنت الآن تعيش الحلم..
بما تشعر و أنت تكتشف الجهة الأخرى للعالم، للكون؟
تشعر بالخوف، برغبة لا تصور في الرجوع إلى بيتك و عالمك البسيط..
الممرات تتشابه.. المتاهة لعبة قذرة.. تحب المشاركة فيها على الورق أو في الكمبيوتر..
تعلن للفراغ بحنق:
-أكره المتاهات.. أكرهها..
تتوقف للحظات.. تتنشق هواء مبللا.. ترفع وجهك للمساء، الماء البارد يغسله و يغسله..
المطر يتوقف.. البرق يلمع و الرعد يتفجر..
تسند ظهرك بالجدار، تمدّ يدك لسترتك.. تسحب علبة الأفراز.. تحمد الله على نجاتها من البلل.. الماء لم يتلف اللّفافة الأخيرة.. تسحبها، تضعها بين شفتيك، و تلقي العلبة بعيدا.. تشعل اللفافة، تعب منها نفسا عميقا.. تزفر بنشوة.. خيوط الدخان تتراقص أمام ناظريك بفتنة..
تركن للصمت، للتدخين.. الإعياء و البلل يسكنان مسامك دون استئذان و لا فاتورة كراء..
تلعن التثبيط و الشيطان الرّجيم.. تحصر بصرك في الممر أمامك، في منعرجه الغير بعيد عنك..
- أرجو من اللّه أن تكون آخر منعرج و إلا تيقنت أنه حكم علي بالموت في هذه اللعنة الحقيرة..
تلقي عقب اللّفافة في الوحل، و تندفع بخطى سريعة.. تجتاز المنعرج الأول، الثاني، الثالث، و تتقدم في هذا الممر الطويل بلا التواءات..
- كم هي الساعة؟ تستفسر حائرا؟ كانت الخامسة و النصف مساء في المرسم..
تتطلع إلى السماء الملبدة.. يبدو لك أن في هذه البؤرة المنسية الزمن لا يتحرك..
- لو لم أنس ساعة يدي.. لا يهم..
ما جدوى معرفة الوقت و أنت محبوس في المتاهة رفقة الغياب.. زوجتك ستقلق عليك، هذا أكيد.. كذلك طفلتك الصغيرة.. منزلك البسيط.. نباتاتك المذللة.. كلهم سيقلقون عليك.. سيتفقدونك في مرسمك لن يجدوك.. سيسألون الناس.. الشوارع.. المدينة..سيبكون لفقدك.. ربما طويلا.. إلا أنهم سيتكيفون مع الوضع يعتقدون فراغك.. والدتك وحدها ستتذكرك، و تبكيك كلما لمحت طفلتك الصغيرة و صورك، لوحاتك المهجور في القبور مع الغبار..
تتضرع بصدق لخالقك.. تطالب الخلاص و العودة بكل مشاعرك..
الممر يصل إلى النهاية، هناك التواء.. تمضي فيه بلا تفكير تترك الحبل للصدفة.. الوقت آن للإيمان بالصدفة.. الصدفة تصدق كثيرا.. الصدفة هي القدر.. أجل هي القدر.. أجل، و القدر يبدعه الله سبحانه.. و أنت عبد مؤمن صادق الإيمان.. تصلي أوقاتك.. تصلي أوقاتك.. تصوم النوافل.. تتلو القرآن كل يوم.. لن يتركك الله في مأزقك هذا.. سيفرج عنك.. رحمته واسعة، و أنت عبد مؤمن تسأل رحمته دائما.. ذنوبك الأول لن تحجب معونة الرّحيم عنك..
تجثو.. ركبتاك مخوضتان في الوحل.. المطر خيط من السماء يغسلك للمرّة الثانية.. تنادي:
- اللّهم أني كنت من الظالمين.. اللّهم أنك رحيم تحب الرّحمة فارحمني..
و تبكي بمرارة.. كفاك يهويان في الوحل.. تحاول جاهدا خنقه، إلا أنه ينزلق ساخرا..
تنتفض.. تقف.. تعاين الممشى.. تسير في مهل..
يتناهى خلفي صوت نشاز..بتؤدة ألقيت بنظري إلى خلف لم يكن هناك شيء.. بقيت لوهلة محدقا في الالتواء و قد استحال نبضي وليد يوأوئ..لم يظهر شيء.. أكيد أني بدأت أخرف.. قلت في نفسك، و هممت بمواصلة فك الخيوط.. لكن عند أول خطوة تكرر الحفيف.. شغلت ذاكرتك.. قالت:
- إنها خطوات حيوان..
إلا أنك لم تعرها أي اهتمام، و أتممت سيرك ووقع خطوات تنهى من خلفك.. تقتفي أثارك..
- اللعنة، ظني صادق هذه المرّة.. هناك من يلاحقني.. قلت في نفسك و قد أزمعت مباغتة هذا الشبح الماكر..
خطوت بضع خطوات و التفتت في خفة بهلوان إلى الخلف.. فإذا ببصرك يصطدم بصورة كلب من فصيلة الدوبرمان في حجم أسد هصور واقف يحدق فيك بتركيز شديد و قد انشمرت شفتاه عن أنياب ابريه طويلة و أسنان تماسيح استوائية و اللّعاب ينزف منها كالصديد..
أربد لونك و تجمدت دماؤك.. ارتعاشة مرعوبة طفحت تتسلقك.. لزوجة دبقة نزفت سريعة من جبهتك.. العيون المقابلة تعكسك لحما طريا جاهزا للوليمة و أي وليمة!
أعصابك وثبت متفوزة ترسل حشدا من الخطط كلّها بدت عنينة في مجابهة هذا العاتي الخارج من الحكايات الخرافية..
لم يحرك ساكنا.. بقي في مكانه على حاله كالتمثال يتفصد من بين أنيابه زئير خافت مهددا..
السماء الرمادية خفقت تمطر سوادا بهيميا و دقائق بعمر الأرض..
المواجهة لعنة حاصرتك بسياج ناري مشبوب الأوار.. قلت في نفسك:
- لماذا لا يهاجم و ينهي هذه الفاجعة؟
رتبت بسرعة حدسية وسيلة لفك هذا الوكاء.. خفقت بحذر و مهل تتراجع إلى الوراء و قسمات وجهك تتملقه مسترحمة..
عند المنعرج الأول اندفعت كالرصاصة تنهب قدماك الممرات الملتوية نهبا دون أن تلتفت أو تتأكد من غريمك.. الأمر الأوحد الذي سيطر عليك هو الركض دون تحديد الاتجاه.المهم أن لا ينال منك..
ولجت ممرا مستقيما لا تتخلله ممرات ثانوية.. مضيت فيه رغم وحولته.. و كلما زدت تعمقا زاد انحصارا و ضيقا..ركضت بلا سقوط رغم التعثر..
فكرة النجاة بأي وسيلة أضحت غايتك المرجوة.. الوحل استحال إلى بركة ماء غمرتك حتى صدرك فزادت جسمك المبلل بللا..
العياء بدأ ينال منك.. و ها أنت تتفقد مطاردك.. إنه خلفك يتنقل على حافة البركة بانفعال في حركة جنونية يرصدك..
المسافة بينكما اتسعت..
- لمَ لا يتبعني هذا الكاسر؟
تفطنت إلى أنه ربما لا يحسن العوم، أو أنه يخشى الماء الموحل.. تتوقف عن العوم لاستعادة نفسك، و التفتت إليه هاتفا في لهاث:
- ماذا دهاك يا وحش الأمازون؟ هل تخشى الماء؟ أم أنك لا تحسن السباحة؟
انتصب في مكانه حاصرا نظره ما بين عينيك و عوى.. في خطفة بصر وثب إلى البركة ناثرا و حلها على الجدران..
اندفع نحوك كالدلفين عاقدا العزم على تحولك إلى قديد مهشم..
بانفعال و فزع غصت و سبحت كالمجنون حتى ضاق نفسك و ارتطمت بالحافة الثانية للبركة طفت على السطح و قفزت إلى اليابسة.. وجدت الممر مسدودا بجدار لا نهاية لارتفاعه تخنقه فجوة تموقعت على ارتفاع متر و بضع سنتمترات.. التفتت خلفك.. الكلب المسعور يقترب من الحافة..
- ماذا أفعل يا رب؟ قلت بقلق شديد..
نظرت إلى الفجوة و ركضت نحو الجدار.. مددت يديك و قفزت صاعدا إلى داخلها دون تردد.. و لحسن حظك أنها كانت تتسع لك..
زحفت بخفة داخلها.. وددت لو كان بمقدورك النظر إلى حالة الكلب و هو يتجرع ذيله.. عواءه كان كافيا لتأكيد نجاتك..
مضيت في هذا الدهليز الضيق تحت جسدك المبلل على الثبات و مجاهدة التعب.. كان طويلا و عطنا و أكثر اتساعا في الأيام.. عضلاتك تشنجت، لم تعد قادرة على المواصلة.. التعب و الجوع أوهنا قواك..
و أخيرا ارتخت أعضاؤك.. غفوت حتى بدوت كدودة أمعاء خدرها المبيد.. شخيرك يربك المسافة، يعلن انقيادك لسيرورة الوقت..


يتبع......>>>

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية