قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

9/13/2009

اللّوحة - الحلقة الثالثة -

أفقت.. عظامك كلّها تؤلمك، خاصة مفاصل عنقك.. ببحة قلت:
- نمت.. من فرط إعيائي نمت..
رفعت رأسك المرتخي على البلاط البارد.. رنوت القدام فرأيت نورا باهتا.. نبست في فرح مريض:
- المَخرج قريب.. هيا يا عدنان.. تشجع.. المَخرج على بعد خطوات..
جمعت ما تبقى من قواك و زحفت نحو النور.. قرقرة أمعائك تعلن جوعك.. ابتسمت و زحفت:
- أرجو أن أجد هناك خبرا و شربة ماء.. أجل خبزا.. لا أطمع في أكثر..
الفجوة اتسعت، عادت في ارتفاعك.. وقفت و دلفت خارج الفجوة غير أن القنوط سرعان ما حلّ مكان الابتسامة و الهمة الفاترة و الوجه العبوس مكان الاشراقة..
ألفيت نفسك على قمة منحدر شديد.. يحاصرك الضباب من الجهات الثلاث.. بقربك صخرة محدودبة و بيمينك شجيرة يابسة.. الرؤية معدومة.. قعدت الصخرة المحدودبة تتدبر أمرك ناكثا الحصيات المكعبة بعود يابس التقطته، مجترا في الآن نفسه كل ما مرّ بك..
تأملت المشهد المرعب أمامك متحسسا الخطر الصائت كالعاصفة خلف هذا الضباب الأحمر الأجوري..
لو تقدمت شبرا لهويت إلى درك أسفل لا أعلم قراره لو بقيت لهلكت جوعا، أما الأوبة فنتيجتها واضحة لا ريب فيها .. ما العمل اذن؟ ما العمل يا عدنان؟ شغل دماغك يا شاطر الخصم المخفي وضعك في الاشاك.. ماذا بوسعك فعله حيال هذا اللغز؟
فكرت طويلا طويلا.. حتى رنّت لكمة قاسية على رأسك، فهرعت واقفا و الحزم مشرق في عينيك، و قلت:
- لابد من المغامرة، أجل لابد..
رميت بالعود بعيدا.. خلقت مئزرك المتسخ.. شمرت أكمام قميصك الأسود.. قرأت التشهد.. نفثت في كفيك بالمعوذتين مسحت وجهك.. و أعلنت:
- أيها المجهول المتمترس خلف الضباب أني آت..
و قفزت مكبرا..
هويت على قدميك كالشهاب المحترق.. في ثوان ارتطمت بسطح ماء.. غصت إلى العمق.. فتحت عينيك.. كل شيء بدا لك أحمرا.. العمق، الأعشاب، السمك.. بصعوبة سبحت نحو السطح.. لطمتك الأمواج.. تلاعبت بك.. التيار الشديد جرفك.. ثبت خراطيمه حول عنقك و جرك بعنف.. الماء المّر كاد يخنقك.. وقع المفاجأة مكنه من التسرب إلى داخلك، صرخت:
- الن...ج....دة.
الصدى وحده أجابك..
ارتطمت مياه النهر بك عكرة، مصطخبة، جائشة يصفق بعضها بكلك، و يشرئب عليك، فتضطرب مذعورا، مهددا بالغرق، بالموت..
أنت سباح.. قاوم التيار.. حاول الوصول إلى الضفة.. و أي ضفة.. لا توجد ضفة.. الضباب الكثيف يغلف الرؤية .. قلوب الكائنات المخفية عليها أكنة و في آذانها وقر.. إنهم لا يسمعون و لا يبصرون و لا يتقدون..
لا تقنط يا عدنان.. أمسك نفسك.. استجمع شجاعتك و قوتك اضرب الماء برجليك و يديك.. اصفعه حتى يحملك بعيد عن الموت.. أنصت لولولتها.. إنها تذعن لك.. تحملك فوق أكتافها، تزحلقها.. غدوت خفيفا كريشة، مزلاجا مائيا يراوغ أمواج الهادي..
ثابر على عنادك حتى و أنت تهوي مع الشلال.. حتى و أنت تغوص إلى العمق مخلخلا من أثر الصدمة.. كاد يغمى عليك لولا البرودة.. ارتخيت فاقدا حمولتك، ماسكا نفسك.. إنها الخبرة في مقارعة البحر تأتي اليوم لنجدتك مما حاق بك..
طفت بكل سهولة، عدت خشبة مصفحة تعوم.. تتنفس بهدوء.. الهواء النقي يملأ رئتيك.. يرخي أعصابك المنقبضة تلمست المسطح المائي.. تحسست نعومة و هدوءه.. فتحت عينيك.. كان هناك صفاء.. قرص الشمس الأصفر يتوهج مداعبا سرب لقالق محلقة..
بقيت على حالك لفترة سامحا للصمت و الذهول أن يسودا.. حينما عادت إليك بعض قواك تململت و سبحت.. الآن فقط تنتبه لبياض الماء.. انك تسبح في نهر كاللبن.. بفضول تذوقته، لم يكن له أي مذاق.. كم تمنيت أن يكون لبنا.. الجوع يرهقك، يزعجك..
أخيرا بلغت الضفة.. مشيت بضع خطوات و استلقيت على الرّمل.. كان دافئا و مريحا.. أغمضت عينيك و نمت تحت الشمس، إنك مرهق جدا..
إنني في هذا الدرك النابت من الأساطير البابلية قشة يابسة في مهب الرّيح الاستوائية.. أجدني عاجزا عن الفهم تتلبسني الحيرة الممقوتة و استفهامات لا أرى لها قرارا.. حبطت كلّ محاولاتي للتفسير، لا أجد أثر خيط رفيع.. أبلس فكري و نام..
التثبيط أمسى لحافي الوحيد في هذا العراء المتحرك.. الرّمل تحتي يدعوني للإغفاء يخبرني أن الأحلام خندقي المنيع من هذا المصاب..
أتمدد متوسدا ذراعاي.. أعاين السماء المترقرقة و شهبا تجرجر أذيالها.. أتنهد زفيرا طويلا يؤانسني.. أتملى النجوم.. أنسج منها لوحة لجمال أفرديتي ينشج ثم يبتسم.. يحملق فيّ.. يمد شعاعا ناعما إلى عيناي.. يدعوني إلى العروج.. صوتي ينوح:
- سارة..!
أمد يدي.. أتمطط.. جسدي يعلو طافيا في الهواء.. سلاسل من حديد تبرز من الأرض ، تكبل رجلاي جدعي عنقي يداي و تجذبني، تثبتني.. الجسد الملائكي يطرق مودعا، متحسرا.. صوتي يصيح:
- أرجوك سارة.. لا ترحلي..
حسما كالجحافل الغازية تنداح تحتها و حولها.. تدثرها .. تخفيها.. صواعق ترعد.. سياطها المحمومة تزلزل العراء.. ريح صرصر عاتية تصول.. المطر يندلق سيلا جارفا.. صوت من بعيد يعلن:
- أيها العالم الهمجي الطوفان سيبتلعك.. معاصيك ستلتهمك..
قهقهة حادة تؤز الصواعق أزا، تهتف:
- أيها العالم أدعوك إلى الخلاص فاتبعني.. اتبعني..
الماء العكر يحتوشني يغرقني.. كل عضلاتي تنقبض.. تتمرد.. تجاهد الغرق.. تجلب على الحديد بكل قوتها.. وميض الحياة يخفق، يخفق.. أتخبط كالممسوس.. نفسي ينقبض، يضغط على صدري.. أركل، أرفس و أصيح:
- الهي إني مكظوم و أنت أرحم الرّحمين..
أعب الماء العكر.. عدت على شفير البئر.. أنتفض..
- لا أريد أن أموت.. لا.. لا..
العرق يتفصد من كلّ مسامي.. نبضي مفزوع و نفسي متسارع.. و الدمع الدليل يترقرق في مقلتاي..أجيل النظر فيما حولي.. المكان كما هو لم يتغير.. العراء ناشف لم يتبلل.. السماء صافية لم تتبدل.. النور يسكنها الآن..
أغمض عينيك و استلقيت متنهدا حامدا اللّه على النجاة من الكابوس.. لا راحة على هذه الأرض الملعونة.. النوم كوابيس و اليقظة مغامرة مستمرة.. لا راحة على هذه الأرض الملعونة.. فتحت عينيك.. أرخيت كلّ أعصابك.. رحت تستنشق الهواء بنهم.. تستنشق الحياة.. هذه النعمة الرقيقة المحفوفة بالمكاره.. غير أن الهم الراسخ يتداعى كتنين بثلاثة رؤوس ينفث في وجهك أبخرة محمرة قديمة حامزية تلفح جبهتك تحرقها، تحيلها بركا حمراء قانية..
عطشان أنت و جوعان.. النهر أمامك قم إذن و أروي جوفك.. بياضه ر يعني أنه ملوث.. بياضه جزء من سريالية هذا الوجود.. قم إذن.. تشجع لا تخف.. الخوف سمة الجبناء و أنت الآن بطل.. مغامراتك السابقة أثبتت لك بطولتك، بطل أنت نابع من لعبة فيديو مثيرة..
تقدم يا عدنان.. تقدم نحو النهر..
تتقدم، تغطس شفتيك في الماء و تعب.. لم يعد يهمك بياضه، المهم الآن إرواء عطشك.. تغطس رأسك كلّه و ترفعه نشوانا.. برودة الماء نشوة مميزة.. امتلأت معدتك ، لا تشعر بألم أو رغبة في التقيء.. تحسن حالك عليك بمواصلة السير.. الطريق طويل و واحة نخيل و رمل أمامك، مساحة أخرى للتيه..
تتقدم بخطى مثقلة.. تتطلع إلى أعساف النخيل.. النخيل عقيم و الرمل يفور.. لمَ اختارتني الأقدار بيدقا للعبة طويلة لا أعلم خصمي فيها.. خصمي متخفي ماكر يحسن المراوغة و اختيار الفرص..
إنني بلا حول و لا قوة، سلاحي الوحيد حفظ من اللّه و أجل مكتوب.. إلى أين تمضين بي يا رجلاي؟ إلى أين؟ ماذا خلف السكون و الفراغ المطبق؟ أعاصفة أم فرج قريب؟ الله وحده يعلم.. يعلم أين أنا و لمَ أنا هنا و لمَ لم أصلي الوقت.. لا أدري هل أًذن للمغرب أم لا يزال؟ أم أن صلاة العشاء قضيت.. سأصلي، أجل سأركع ركوع السفر لأني في سفر غير مبرمج..
زمن الممشى تمدد و الواحة استحالت بلا منافذ.. السماء أظلمت.. لأول مرة أظلمت.. النجوم تترقرق من بعيد في هذا الصفاء و السكون و أنا مازلت أسري بلا دليل..
- آه، عييت.. كل الطيور إلى أعشاشها هرعت إلا طيوري لا عشا و لا كفنا.
ارتح إذن يا عدنان.. ارتح و استمع لأهات أمعائك و قدميك.. النخلة مضيفتك و الرمل لحافك الآن.. لا جدوى من الكد.. الضياع حظك في هذه الجغرافيا المنسية..
تنبطح تحت النخلة.. تفرش الرمل متوسدا حذاءيك.. لا أنيس لك غير الوحدة و الصمت و شيء من الماضي..
- اشتقت لعمر خيرت، لبتهوفن، لموزار.. افتقدتك يا فيروز.. افتقدت ألحانك المسافرة في الشجن و الأمل.. اشتقت إليك طفلتي الصغيرة..
اشتقت لأشيائك الحميمية ، لدفئ قهقهات طفلتك المرحة، خشخشة ريشتك العرجاء، رسائل الخطوبة و الحب الفتي.. لأرجوحة طفولتك في بيتكم العتيق في أعلى الربوة و شجرة التين و زهر اللّوز.. كلها تطفو إلى السطح.. تفتش لك على ابتسامتك الطرية.. تلملمها و تنفثها رذاذا باردا على وجهك المنهك..
عيون المغيب تشيعك على الشاطئ.. تطبع على الرمل أقداما عارية لبدن يافع مفتول.. يد بيضاء بضة تطوق يدك اليسرى.. فتنة عذراء تعانقك.. عيناها السماويتين ثملتان و أنت عاشق عاشر قيس و المجنون منذ السهم الأول..
الموج يدندن يتكلم يحكي رواية زمان و ينشد أغاني عرائس البحر.. عيون المغيب تعد أنفاسكما الخافتة و الضحكات الوردية المترقرقة..
- أتحبني كما أحبك؟
- كلّ الأجوبة لا تكف هذا السؤال..
- ليت أيام العسل تبقى إلى الأبد..
- ستبقى يا حبيبتي ما دام نبضي المتيم لا يفتر..
تتركها على الرّمل و تقفز بمرح طفولي في الموج.. تنتفض و ترميها بالماء المالح.. الرذاذ يرعشها فتدعوك لتوقف.. لكنك تستمر.. عدت طفلا في السابعة.. استحالت طفلة في السادسة.. تقفز خلفك بملأتها المزركشة و خمارها الأرجواني.. تغوص إلى الرمل كالسمكة و تقبض حفنة منه.. تستقر الحفنة على شعرك.. تسبح هاربة مزغردة.. تسبح خلفها برشاقة و تغوص متخفيا.. لم تعد تراك.. مكوثك تحت الماء طال.. الوسواس يحاصر فرحتها.. الابتسامة تخبو و القلق يصحو..
- عدنان لا تمزح بمثلها مزحة..
صمت...
- أعلم أنك مخادع..
صمت ثقيل...
- عدنان أرجوك.. تصيح المسكينة..
أناملك تداعب من تحت الماء ساقيها .. تفاجئها فتضحك و تطفوا أنت أمامها بكل هدوء.. الماء البارد ينساب على بشرتك رومانسيا شبقا.. الغروب يموسق المكان..
- متيم بك يا عروس بحاري حتى الجنون..
فتبتسم برقة ثملة و يدها تحثوا على رأسك حفنة رمل مبلل..
- لا تكرر فعلتك.. سأموت..
- أنا من سيموت.. أمعائي تثوغ و الجوع لا محالة هالكي.. أريد النوم.. أبغي الراحة و الانعتاق.. لكن واحسرتاه، النوم هاهنا مأساة أخرى.. مسرح مفضل لتمثيليات كابوسية فظيعة.. أجفاني مثقلة، لوحدها ترتخي، لوحدها تسدل، لوحدها تظلم..
نار.. نور.. عرق.. إزعاج مستمر..
و أخيرا تستيقظ.. تفتح عينيك بمهل على أمل قديم.. الشمس طلعت منذ فترة.. الواحة كما هي لم تتغير.. خاب رجاؤك يا عدنان.. الكابوس لم ينه بعد.. هناك استمرارية يا مسكين..
تفرك عينيك.. تتمطط متثائبا.. تحمد الله على البعث الجديد و ترجوه الخلاص القريب.. تقف، تعاود التمطط.. تمديد العضلات متعة فريدة، تقول:
- لا قهوة، لا شطائر بمربى التين.. لا سيجارة.. البؤس يا صاحبي يصاحبك كالظل.. المهم أي سبيل أسلك؟
تعاين المكان.. هضبة أمامك في قمتها سدر متفرع.. تقرر..
- لأصعد الهضبة لعلى و عسى..
و تتقدم..
العطش أنضاف إلى الجوع و شكلا مطرقة و سندانا و أنت بينهما مسجى..
تطأ القمة.. تفاجئك بانحدار رملي و ربوة عالية في الجهة الأخرى.. دون نقاش تتقدم.. تنزلق فوق الرمل متكورا و تقصد الربوة العالية.. تخترق الأحراش و الأشواك.. لم يعد يزعجك الحذر العالق بعنقك و لا ضجيج الرؤوس المشرئبة بداخلك.. حتى الدم النازف من ركبتك لا يزعجك.. عيناك مسمرتان بالصخرة الطويلة المستطيلة أطلت اللّحظة.. لغزها يجذبك، تقول:
- سرّ جديد يثب أمامك متحديا يا عدنان..
إنها أمامك.. تلهث.. لكنها أمامك شامخة كالتاريخ تدعوك لتأملها.. كتابة بخط عربي نسخي واضح منقوشة عليها.. تقرأ بصوت مسموع:
- أيها الرائي، ع ذاتك، استشرف منابع الخير الدافقة فيك.. انحز إليها و أردم بؤر السواد في قاع نفسك.. كن شفاف ليتجلى لك الكون بكينونته الأصيلة، ليخلع بدوره الأقنعة التنكرية و يفر عريه المتآكل منذ البدء..
لا تنخدع بالأرق المتوهج، لا تقبل دعوته لشرب الانبهار.. مزق حلية الجذب الممتدة إليك.. ركز زاوية أخرى للتحديق.. العمق محق رهيب للروح، مأساة للبشرية..
- إنها حكمة، نصيحة .. تقول في نفسك.. لكن من نقشها بإبداع؟ من قالها بعد تفكير؟ إنها دليل مادي على وجود عقل ذكي مفكر هاهنا.. أي طريق سلك؟ أكيد انحدر إلى غابة السرو..
و تنحدر إلى الغابة بدورك تحث المطي في الممرات الملتوية.. تنتبه إلى نبات البقوق، طعام الجد و الجدة أيام الاحتلال و الفقر و الجوع الطويل.. و أنت جائع مثلهما و سجين.. تحفر النبات على أصله.. تجني من جذوره العميقة حبوبا صغيرة.. تتردد قليلا لكن تمضغها.. طعمها مرّ يحرق الحلق.. فتبزق النفاية و تزعق:
- اللعنة، كيف كانوا يأكلون هذا العلقم؟
و تنتفض.. تعاين المكان بدقة باحثا عن شيء ما تأكله.. تتفطن لفطر بين أشواك السدر.. تمدّ يداك إليه بحذر.. شوكة توغزك ثم أخرى.. تمطط أصابعك.. تحكم قبضتك حول الفطر.. لسعة رهيبة توغزك.. تسحب يدك بخفة و ألم.. تزعق:
- اللّعنة.. اللّعنة..
بسرعة تنزع حزامك و تشده حول ساعدك.. الدم يفور و السم ألم رهيب يرعشك.. الرّؤية تبهت و تتكمش خلف سحابة سوداء كثيفة.. تفقد توازنك و تهوي كالنخلة المجتثة من جذورها..
حرارة تلهبك و عطش بعمر الأرض يعتصرك.. بجهد جهيد ترتفع.. ترفع رأسك محاولا النهوض، غير أنك تترنح و تنطرح أرضا.. الوهن تمكن منك يا عدنان.. الأفعى باغتتك هذه المرة و نفثت فيك سمها القاتل..
- يا إلهي...
و تجمع قواك مرة أخرى.. ترتكز على ذراعك الأيسر، غير أن مرونته تخونك.. لم تعد قادرا على الحركة.. الوهن يسيطر عليك كاملا.. الحمى خفقت تمازحك.. توريك شبحا قزما جالس القرفصاء بجانبك الأيمن.. لم ترتبك كما من قبل.. باردة أعصابك.. عيناك الناعستان معلقتان به.. الكمائن أضحت عادة لا تجر معها الخوف.. إنك في ضعفك أكثر اتزانا و رباطة جأش.. شجاعتك الغير عادية أكيد تضايقك و تضايقه.. تنبئه بالزلزال القادم من بعيد، ببخار حاشد يتماوج.. الغبار يتكاثف يتطاير.. موسيقى الغرب الأمريكي تدندن في أذنيك.. ترتعش اللحظات و يرتعش معها جلدك من الحمى..
يخلع عينيه الضيقتين من عينيك.. ينهض.. يقصد موقد النار.. يقتعد صخرة مستطيلة.. يحمل غصنا طريا و يقلب به الجمر.. إبريق القهوة يغلي.. يرفعه.. يكب كوبا و يعيد الإبريق إلى مكانه..
هيأتك أيها القزم الغريب عادية.. أتدري لما؟ لأنها و بكل بساطة مبتذلة متداولة.. رأس غزير الشعر بأذن صغيرة مدببة و أنف صغير يعلو فما صغيرا بأسنان صفراء كاملة و ذقن أمرد.. ثيابك الشبيهة بثياب الهنود الحمر لا تستدعي التعجب.. أكيد أنك وهم يقلب شفتيه، يحاول في خفة بهلوان مراوغتي و تمرير الكرة بين رجلي و تسجيل الهدف القاتل..
تتذوق القهوة متمتما بجرس مذيع الأنباء التعيسة:
- أنت محظوظ.. محظوظ فعلا..
تهمس:
- لذلك لفظتني القبائل من حفلتها الراقصة.
- الحية الرقطاء سمها قاتل.. حقا إنك محظوظ و محفوظ..
تختان نفسك:
- ليتني مت و ارتحت و أرحت..
- الموت غاية الجبناء..
- و رغبة المنبوذين حين ينتحر الأمل في المستنقعات..
يبتلع قطعة جبن، يمضغها في تلكؤ، يذيع:
- الأمل نحن نصنعه، تكفي إرادة البقاء و رغبة الانتصار..
عتمة خفيفة تغشي حدقتيك.. حمى ارتدادية تجرجرك و تحملك بعيدا عن الوعي..
تنزلق بالمزلاج كالكرة الحديدية.. تقذفك البالوعة في الوحل.. تتدحرج تتشقلب و ترتطم بالتراب.. تهوي في منحدر.. يتلقفك رمل متحرك.. تغطس في بركة الماء البارد.. تسبح بوجل، بهلع.. نفسك يسابق التيارات المائية.. تطفو على السطح.. يجرفك شلال شديد الانحدار.. يردمك في كومة قطن منفوش.. تحاول النهوض.. تسقط تزحف.. يداك تلامسان اليابسة و العشب الأخضر.. ينبوع ماء منعش.. تعب منه حتى ترتوي، تعب و تعب..
تفتح عينيك.. القزم يكمد حرارتك بأوراق مبللة.. يحاول جاهدا مساعدتك على ابتلاع محلول بارد.. تبتلعه على مضض ثم تغفو و فمك مفتوح..
إني أموت، إني أسافر بعيد.. وداعا يا حسنى، وداعا خلود، وداعا أيتها العائلة الحنون، القطار سينطلق بي هذه المرة دون رجعة.. إني راحل إلى الرفيق الأعلى.. حسنى أحبك كما أحببتك أول مرة إلتقت عيناي بعينيك.. خلود لا تنسي أباك الحنون..
الدموع تغلبك.. الفراق صعب، الفراق مأساة.. الدموع تقهرك تخنقك.. المسافة بين الأحبة تزداد بعدا، تصرخ:
- لا ابقوا معي..
تيار هواء بارد منعش يداعبك.. ينبهك أنك حي.. أنك تتنفس الوجود الدنيوي.. النور يمسد بشرتك الشاحبة و زقزقة طيور جميلة تطرب مسمعك.. حفيف أعرف الشجر ينعش حواسك.. ترفع كفك الأيمن و تمسح عرق جبينك.. تتنهد طويلا حامدا الله على البعث الجديد.. تتطلع للمحيط.. تجذبك مائدة حجرية اصطفت فوقها مأكولات جاهزة.. تنهض قاصدا المأدبة.. أمعاؤك تعوي، الجوع يعتصر ما تبقى من معدتك..
حمام مشوي، سلاطة بالطماطم، بطاطس مقلية بالبيض، تفاح أصفر طازج، مشمش، قنينة عصير البرتقال الطبيعي.. شفتاك تتلمظ.. كالهر المتربص تنقض عليها دون استئذان او دعوة.. الجوع لا يسأل الإذن، حتى بسم الله نسيتها.. همك الآن الشبع و تعويض ما خسرته من حريرات كثيرة.. الطعام خلق ليطعم الجياع و أنت جائع، جائع حتى الموت..
بنهم تأكل، بنهم تقضم بسرعة و بنهم تسقي جوفك.. نستلقي مسندا ظهرك لجدع الشجرة حامدا الله على النعمة.. الآن فقط تحس بطعم الرّاحة بلذة الحياة.. الآن فقط تبسمل على الأول و الآخر.. فقاعات الامتلاء تتطاير من فمك و منخريك..
رنة رقيقة تقرع مسمعك:
- أعجبك الفطور..
تلتفت، القزم الطيب واقف محملا بأكوام الحطب.. ترد بابتسام:
- أجل، الحمد لله.. بارك الله فيك و في رزقك و جزاك عنا كل خير..
تقدم بضع خطوات، ألقى حمولته ثم اغتسل في الترعة القريبة و جلس بدوره إلى المائدة..
- لم تترك لي غير الفتات..
احمرت وجنتيك:
- آسف..
- شبعت؟
- الحمد لله.. شكرا على كل شيء..
- هذا واجب.. فلا شكر إذن..
تتفحصه و هو يأكل بانتظام و روية كالخجول.. حرارتك اعتدلت و عادت إلى طبيعتها.. تتفقد موضع اللسعة.. لم يعد لها أثرا.. الثقبان اختفيا من الجلد.. الكمدات العشبية مفعولها مدهش..
ولم الاستغراب؟ كلّ الأشياء في هذا الوجود مدهشة، حتى أنت عدت مدهشا، اندمجت كليا في الديكور، لا فرق بينك و بين هذا القزم المهذب، الكائن المفكر الوحيد على ما يبدو.. تسأل بخجل:
- هل لي أن أسألك؟
فأومأ موافقا..
- أين نحن بالضبط؟
حدق فيك مليا ثم قال:
- في غابة السرو!
- لا أقصد ذلك..
- و ماذا تقصد؟
سكتت قليلا ثم قلت:
- نحن في أرض غير الأرض!
فابتسم:
- يكفي أن تعرف أنك في غابة السرو، أما هل أنت على الأرض أم في السماء فتلك أسئلة سيجيبك عليها الآتي.. كلّ ما أستطيع قوله لك.. و نهض من على المائدة حامدا الله على النعمة.. أن العالم مليء بالأسرار..
حرزت المقصود من كلامه.. شيء ما يمنعه من البوح.. يسألك و هو يقطع الحطب إلى قطع صغيرة بفراعته:
- حائر أليس كذلك؟
لا تجيب، عيناك تفصحان بالصراحة..
- كلّ عباد الله إلا و يمرون بامتحان، الكيس الفطن منهم من يفقه ماهية النجاح و الخلاص.. لا تقلق وصولك إلى هاته المرحلة المتقدمة دليل مادي قاطع على قرب خلاصك..
و تقف متمططا ثم تتقدم نحوه..
- هل أساعدك؟
- شكرا، العمل بسيط لم يبقى إلا القليل..
- هل طال مرضي؟
- قليلا..
- أرى الرّحيل..
فتوقف عن شغله..
- حسنا سأرشدك إلى الطريق..
ترك فراعته ثابتة في الخشب و تقدمك بمهمة و نشاط.. و بتهذيب برتوكولي قال لك:
- اتبعني من فضلك..
خطواته السريعة دفعتك لبذل جهد جهيد للحاق به و كأنه يتهرب من استفهامات المتلاحقة المتراصة..
الأوامر محددة و صارمة حتى أنت أيها القزم لا تقوى على مخالفتها.. بمجرد أن أشرت إلى الرّحيل رحبت بالفكرة و بادرت بالسير.. في الواقع كنت أود المكوث أكثر معك لأستطلع سرّك و سرّ عالمك النابع من الأساطير.. لأمتع معدتي بوجباتك الشهية و آخذ وقتا أطول للراحة و التفكير.. غير أن الساعة تمضي بلا توقف و علي بمتابعة فك اللّغز.. لا راحة و لا كسل في أرضك يا قزم.. ترى إلى أين تقودني؟ إلى النجاة أم إلى مزيد من المجازفة و الامتحان؟
القزم يمضي بك بلا كلام أو التفات إليك همه الوحيد أن يوصلك إلى مفترق الطرق..
بعد مدة أوقفته ضفة مستنقع شاسع مليء بالأحراش المائية و زعانف عائمة.. عن يمينك امتد جسر دائري ضيق مجوف التصقت بجدرانه عليق شائك كأنه سرد مهجن و عن يسارك جسر صخري رهيف.. شيء ما يتحرك في المستنقع، شيء ما يقفز و يغوص، إنه حيوان مائي يشبه القرش لكن جلده جلد تماسيح..
- ما هذا؟ سألت بفزع.
- قناص المستنقع و حارس الضفة الثانية..
اقتعدت جلمودا خلفك و ربتت على رأسك مولولا بصمت..
- أعتقد أن طريقي سيتوقف هاهنا يا صديقي القزم..
فنظر إليك و ربت على كتفك:
- بل ستواصل رحلتك، هذا قدرك..
- قدري! إذن سأهلك لا محالة هذه المرّة..
فحول نظره إلى المستنقع:
- لا تدع الخوف يشلك، فكرة الموت لم تكن يوما عائقا في سبيل بلوغ الغايات..
تحبوا على طين لازب، الشوك المنتصب فوقك و حولك يمنعك من الوقوف.. تحبو في هذا النفق الضيق.. تحبو عاريا إلا من سروال مهترئ.. سحنتك ممتقعة شاحبة، نحولتك فضحت نتؤات عظامك.. القزم الأمرد أخبرك أن جسر الشوك، الطريق الوحيد الموصل للضفة الثانية، إنه طويل لكن خال من المخاطر.. عيبه أنه شائك و يتكمش عند الغروب و يتفتح عند الشروق..
- ستتعب، ستبدل جهدا في مسابقة الشمس، لكنك إذا صبرت و قاومت اللّسعات فستصل بعون الله.. أما الجسر الصخري فقصير لكنه لزج، عواقبه وخيمة و لا ينجو منه إلا محظوظ.. قال القزم..
قلت مطرقا:
- غايتي الوحيدة العودة إلى أهلي.. إلى.. و ..
إنها المرة الأولى التي تذرف فيها الدمع بهذه الغزارة.. فمدّ يده الصغيرة و احتضن كفك الأيمن رابتا عليه و قال:
- إذا واصلت مسيرتك، فسيمن الله عليك بالفرج.. المهم أن تقاوم بتحد و جلد و لا تنسى التوكل على الله..
- التوكل على الله، أجل، دائما توكلت على ربي..
أخذت نفسا عميقا و انتصبت واقفا.. خلعت قميصك الممزق.. نظرت بحزم إلى القزم.. مددت يدك مصافحا، و هتفت:
- وداعا أيها الصديق الصغير.. اعتني بنفسك و كن متأكدا أن وجهك الصبوح سيبقى راسخا في ذاكرتي..أجل لن أنساك أبدا..
فابتسم، و قال:
- في حفظ الله يا أخي، في حفظ الله..
اللّسعات من الجانبين تمدّ إبرها و تدمي كتفيك و باقي جسمك..المسافة تبدو لك بطول العمر.. النور المتسلل من الفجوات يعلمك أن الشمس لا زالت في عنان السماء.. غابة السرو اختفت و القزم الطيب و المأكولات الشهية معها..
عليك بالإسراع في الحبو يا عدنان، زمن النور في هذه الأرض غير معلوم، قد تظلم فجأة فتجد نفسك مثبتا في كماشة عذاب نتئة.. أسرع يا عدنان، اصبر عن الوخز و تقدم.. حياتك كلّها وخز، الوخز عاد روتين ممل..
الوحش من تحتك يسترق النظر متربصا.. ينتظر زلتك ليبتلعك.. تصرخ في وجهه:
- أيها الوحش الأبله لن أكون يونسك أبدا.. ابحث قرب الصخر ربما تعثر على فريسة أخرى.. أما أنا فلن تهنأ بملوحتي و حتى إن تمكنت مني فلن أشبع جوعك.. المعاناة أكلت كلّ لحمي يا متعوس..
و على الرّغم منة الأوجاع و الدم المهرق من ظهري و جانبي جسميك تتقدم منشدا نشيدك القديم:
- أخي أنت حرّ وراء السدود
أخي أنت حرّ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما
فماذا يضريك كيد العبيد
أخي إن نمت نلقى أحبابنا
فروضات ربي أعدت لنا
و أطيافها رفرفت حولنا
فطوبى لنا بديار الخلود.
لا تسأم من النشيد حتى الإعياء لا يثنيك عن الإنشاد.. دائما كنت تترنم.. لنفسك تنشد و لزوجتك و لطفلتك.. حتى في أحلك الظروف تغني.. الغناء و التنكيت تسلية المنبوذين، كنت تفصح دائما حين تفاجئك والدتك في على كرسيك المتأرجح على السطح تدندن و عيناك مغمضتان..
ضباب كثيف يغرق المنطقة.. الرؤية باهتة صعبة و اللسعات تزداد.. شيء ما يحدث.. النفق يتسع و الشوك ينحصر.. بات بمقدورك الوقوف.. المكان يتسع لطولك، فتنتصب بصعوبة و ألم في ظهرك و الركبتين.. تفرقع عظامك بلذة.. تتفقد مواضع الوخز.. الدم تخثر في المسام المنتفخة..
تعاين الأمام.. الرؤية معدومة .. تقرر التقدم.. تمدّ قدمك بلا مبالاة.. إنها تقع في الفراغ.. تحمد الله أن الارتفاع كان بسيطا.. لم يحدث لك أي كسر.. تتحسس موضع سقوطك.. إنه عشب، عشب كثيف، تقول في نفسك بعد صمت و تقفز مسرورا:
- لقد نجحت.. نجحت.. اجتزت المستنقع..
و تخر ساجدا شكرا الله على التوفيق.. و تستلقي على ظهرك متوسدا ذراعيك قائلا:
- سأنتظر حتى ينجلي الضباب، بعدها أقرر ماذا سأفعل.


يتبع............ الحلقة الأخيرة .......>>>

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية