قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

9/13/2009

اللّوحة - الحلقة الأخيرة -

و انكمش الضباب و تبدد ليكشف لك سماء صافية تترقرق شمسها بجلال و الطبيعة كأنها عروس مزدانة تتماوج برشاقة في رقصة باليه.
- يا أ الله كأني في معرض تشيلسي للزهور.
عيناك تتفتح أخيرا على الحياة، الضفة الثانية جنة فردوس، أمداء من الأشجار الباسقة المزهرة، ظلال ممددة على خضرة تسر النظر، تشققات جداول يتدفق ماؤها في تموجات فنية مبتكرة.
- سبحان الله، أبعد كلّ ذلك الغبن تنبعث مثل هذه الرحابة المؤنسة، أكيد، السعادة هاهنا..
و تمشي بخطى بطيئة مأخوذا بهذا البهاء، متأسفا على بعد حامل لوحاتك و معدات رسمك.. فرصة إبداع تفوتك يا عدنان، قلت متأسفا..
اقتربت من الجدول و اغترفت منه حسوتين.. الماء بارد منعش..
- ليتك معي يا حسنى و يا خلود لتمرحا معي في نزهة العمر.. هاهنا الزمن يتنفس عنبرا و بهجة طاويا الآلام في ركن النسيان المغبر..
على الرّغم من عريك لا تحس بالبرد.. الدفء المريح يجعلك مطمئنا داخل جلدك المثقوب.. العين عطشى إنها تعب و تعب و لا ترتوي..
استندت شجرة و قلت:
- الآن تأكدت بنفسي من صدقك يا قزم.. نهاية المغامرة آنت و لن يمضي وقت طويل حتى يبدأ شريط الخاتمة في الظهور..
و تضحك بسعادة، الهدوء المرين على المكان يجعلك نحلة حوامة تدعو رفيقاتها لمأدبة فاخرة..
- و ماذا بعد يا عدنان؟ أتقنع بالعيش هنا كالبدائيين؟ أم تواصل بحثك عن البوابة؟
المستنقع و الوحش خلفك و الهضاب المعشوشبة أمامك.. الخيار حتمي و السؤال يبقى دائما مسجى بلا كفن أو قبر.. لتتكل على الله إذن و تمضي قدما فلا تدري نفس ماذا يحدث غدا..
و تترك العنان لقدميك تجول بلا هدى.. تجتاز السهل اليانع و تعلو إلى قمة الهضبة المقابلة.. عند سفحها في الجهة الأخرى ينتصب منزل قرميدي وسط حديقة.. قصدتها بلا تردد.. فتحت الباب الكبير لسور بلا عناء و دخلت.. سرت عبر مجاز مرصوف بالرخام الأبيض، محاط بأشجار الورد و الزينة، تصحبك زقزقات مختلفة، حتى انتهيت إلى باحة شاسعة من الأعشاب و الخضرة في وسطها نافورة كبيرة من الزجاج الملون شكلت على هيأة أربعة طواويس شرعت أذيالها ترسل ماءها في حوض مرمري مزخرف بفسيفساء جمعت بين التجريدية و السريالية وخلفها على بعد أمتار انتصبت الدار الفخمة بهندستها الرائعة..
صعدت الأدراج.. طرقت الباب الخشبي المنقوش.. فانفتح لك لوحده بلا صرير.. خطوت خطوة إلى الداخل و حدقت مليا.. لم يكن هناك أحد.. ولجت بحذر متفحصا المكان..
- هل من أحد؟ يا أهل الدار، عابر سبيل يطلب مساعدة..
غير أن الصمت ساد بلا اعتراض..
- من الخطأ الاعتقاد بفراغ مثله قصر.. قلت في نفسك.. أيعقل أن يهجر هذا النعيم؟
أرائك في كلّ مكان، زرائب مفروشة، ثريا متدلية و جدران مزدانة بألواح طبيعية رائعة تمتد إلى أعلى السلم الموصل إلى الطابق الأول..
- يا أهل البيت عابر سبيل يطلب مساعدة.. هل من مجيب؟
- لا أحد.. إذن البيت فارغ.. هذا ممتاز.. أين المطبخ؟
دخلت أول حجرة ، كانت فارغة ثم الثانية بجانبها إنها حمام..
- ممتاز.. قلت بفرح أسطوري..
فتحت الحنفيتين.. ماء دافئ يتصبب من مرش في السقف..
- جميل.. أحتاج إلى حمام.
نظرت إلى الجدار الأيمن، كان هناك صابون منشفة و منظف شعر في قنينة زجاجية زرقاء بدون ماركة.. لأول مرة تحس بنشوة الماء يتصبب على إهابك دافئا مطهرا منعشا.. التعب لوحده يتبدد، حتى الأفكار الصدئة تتلاشى تحت الماء.
انك محظوظ فعلا يا عدنان، لكنك تبدو كشحاذ جاء يطلب صدقة فتحول في لمح البصر إلى محتل له سلطان و جاه.. لم يعد للأخلاق أهمية في هذا الوجود، في صراع البقاء كلّ الفضائل تزول.. تسخر من ضميرك المتفوز.. كم كنت في حاجة إلى حمام.. و ها أنا بعد ثقل و تعب أشعر بخفة و نشاط.
تجفف جسدك جيدا و تتركك الحمام إلى الصالون.
- سبحان الله .. تقول مندهشا و قد تموضعت أمامك مائدة فوقها مأكولات و شراب.. من أين نبتت هذه البركة.
تقدمت بفضول و عاينت المكان ثانية و ناديت:
- هل من أحد في هذا البيت؟
فإذا بصوت ذكري مبحوح يتناهى من الطابق الأول.
- لا تكثر من الأسئلة، اجلس و خذ راحتك.. المأكولات أعدت لك.
- آسف سيدي، اعتقدت أن البيت مهجور.
- لا يهم.. طلبت المساعدة و ها قد أجبت طلبك.
- فأطل خلف الإفريز شيخ ملتح بزي عماني و قد أشرف محياه بالوقار و الطمأنينة.
تجمدت أطرافك السفلى في مكانها كأن جليدا قطبيا هب عليها و تسللت إلى نفسك رهيبة غير مبررة.
أقبل نحوك الشيخ بتؤدة، و قال:
- تفضل اجلس.
و جلست في مقعد بجانبك، بينما جلس هو في المقابل.. بدوت كصبي فوجئ متلبسا بشقاوة.. لم تفهم سبب هاته المشاعر المباغتة اللامبررة.. تمالكت نفسك.. بسملت.. حملت ملعقة الفضة و تذوقت الحساء، كان فعلا لذيذا، حساء سمك كما تحبذه دائما.. فقلت بلباقة:
- حساء لذيذ، طباخك ماهر يا حاج.
- أعجبك؟
- بكل تأكيد.
- إذن كل هنيئا مريئا.
- أرجو أن تعذرني، معدتي خاوية.
- الوجبات تعد لتؤكل يا رجل.
و بلا تردد اندمجت تماما مع الأطباق المتنوعة و الشيخ الوقور يراقبك مسرورا مكتفيا بفنجان قهوة تفوح رائحتها زكية قوية.
الشبع نشوة منتصر يحلو بعدها الاسترخاء و سيجارة .. قلت في نفسك و أنت تستوي في كرسيك ماسحا بقيا المأكولات من شفتيك.
- الحمد لله، جزاك الله خير و بارك في رزقك يا حاج.
- بالهناء و الشفاء..
و انتصب الصمت جدارا صلبا بينكما، هو مكتف بابتسامة و أنت بالتحديق في المكان، ثم قلت:
- ذوقك راق، الديكور ممتاز.
- شكرا..
- هل تسمح لي بسؤال؟
- تفضل..
- أتعيش وحدك في هذا العالم المبتور؟
فابتسم، وقال:
- لا بل رفقة عائلتي لكنهم غائبون الآن.
كلّ الأسئلة داهمتك على حين غرة و لم تدر من أين تبدأ.. ثم لمَ الاستفهام؟ منذ أن وطئت قدماك هذه البؤرة المبهمة و أنت تسأل.. ما فائدة السؤال حينما تغيب الأجوبة.. ما ذنب هذا الشيخ الكريم فيما يحدث لك؟ هل جزاء معروفه إزعاج و تشنج فكري؟
- عليّ بالانصراف إذن و لأجد الجواب بمفردي.. قلت في نفسك.. دائما كنت وحيدا في غشائي المكتوم.. فنانا مصلوبا في سرداب الإقصاء و التهميش.. سأكتفي بسؤاله عن الطريق المستقيم.
تململت في مقعدك و انتصبت واقفا بكل أدب و قد تنور ثغرك:
- علي بالانصراف الآن يا حاج.. شكرا مرّة ثانية على معروفك و جزاك الله عني كل خير.
فرنا إليك في استغراب، و قال:
- و إلى أين؟
- إلى حيث شاء لي ربي.
فقام من مكانه، و قال:
- طريقك هنا ينتهي يا عدنان.
سيرت كلماته قشعريرة في جسدك و كأن التهابا سُير فيك.
- أرجوك اتبعني.. قال لك و هو يقصد السلالم.
لم تنبس بلفظ.. الكلمات تبعثرت في تلافيف دماغك المتشنج.. فتبعته كالمنوم مغنطيسيا.
عرجتما الإدراج، و دخلتما أول غرفة.. كانت واسعة سقفها مزخرف بجبس منقوش تدلت منه ثريا على شكل ذرات ماس محدودبة، وجدرانها علقت عليها لوحات من جميع الأحجام و المدارس..
عاينت متأملا المكان.. لوحة بالجدار المقابل سحرت لبك و جذبت ناظريك كالمغنطيس.
تقدمت نحوها مشدوها، و أنت تهتف:
- يا إلهي، إنها ذروة الإبداع! هذا ما تمنيت فعلا تشكيله.
بحثت عن التوقيع.. لم تعثر عليه.. لوحة بلا توقيع.. لا يهم.. ما يهم حالة الإعجاب اللامتناهي التي تكهربك.. الأشياء ماعت و توارت خلف حجاب كثيف، لم يبق غيرك و اللوحة.
تجريدية في العمق تتداخل مع تكعيبية في الأسفل و الأعلى مرتبطة بترج من جوانب سريالية تؤول الآية الكريمة مائة و إحدى عشرة من سورة النحل كتبت برسم كوفي مزخرف في الوسط.
- يا له من انسجام .. قلت بجرس مولع.. تكامل تداخل متقن في اللّون و الخطوط.. هذا فعلا ما كنت أبحث عنه.
فقال الشيخ:
- هي لك..
فالتفتت إليه في اندهاش متشككا:
- ماذا؟
- هي لك.
فالتفتت إليه في اندهاش متشكك:
- ماذا؟
- هي لك.
- اللّوحة؟
- أجل، اللّوحة.
- هذه التحفة؟ مستحيل!
فقال، و قد اقترب منك و كلّه انشراح:
- و لمَ العجب؟ هي لك منذ البدء.. عانيت، ثابرت و ها قد وجدت المرام.. بصمتك يا رجل ستكون عميقة متمردة طاهرة من العفن.
- و لكن كيف؟
فقاطعك مطوقا كتفيك، قاصدا برفقتك في خطوه الضيق وسط القاعة حيث خطّ على البلاط الرّخامي مربع مزدوج داخله هلال صغير متلألئ.
- لا تشغل بالك بمثل هاته السفاسف.
و أوقفك داخل نصف دائرة الهلال و خفق يبتعد عنك و هو يتمتم في خشوع ببضع كلمات غريبة و أردف:
- الآن تبتلعك هلامة ضوئية و في اللحظة تشكلت حولك كالجدار، ستخترق الزمن و المكان و في لمح البصر تمضي إلى عالمك المائج.
أحاطك الضوء و الطمس مجال رؤيتك و طفت في الهواء كالفقاعة.. كلمة واحدة انفجرت مدوية:
- اللّوحة!
فقال الشيخ:
- ستجدها إنشاء الله لا تقلق.
و تردد صداه ثقيلا في مسمعيك.. الفضاء ماع بك بسرعة لم تدع لك حتى فرصة الوداع الأخير.. و غار المكان في فراغ وردي وهاج خبت فيه نبضاتك إحساساتك حتى استسلمت بلا مقاومة لسطوة السكون.. وحده الفرح تبرعم في عروقك كالعليق و أورق باقات زنبق و مسارات تضج برؤى مفعمة بالسكينة و اللّون.
و كعادتك في مثل هاته الحالة رحت تتمتم في هذيان نشيدك المحفوظ:
- غدا أناجي في الضياء حبيبتي
و أذيع في مقل الضحى ألواني
غدا أبعثر بين أهلي فرحتي
و أضم في دفئ الهوى خلاني.
و لم تتوقف إلا و أنت تشعر بقدميك تلامس الأرض من جديد و الهلامة تتفتح و تتلاشى كأنها لم تكن..لاح لك مرسمك كما تركته متسكعا في بؤسه يستاف صبابة و حنينا إليك، أوتاره الخرسى تلامس البعيد.
أخيرا، أخيرا تحققت أوبتي.. أخيرا أشم رائحتك يا مرسمي.. أخيرا تداعب أهدابي المتعبة طلعتك المتورمة.. هتفت بنشوة و أنت تتفقد أشياءك الحميمية.
فيك يا معشوقي تذوب أهاتي و تصير مسرات تتسلق الخطوط و اللّون.. فيك أثمل و أمحو الضجر المعربد، أردمه في الركام.. فيك أمدّ نزوتي تقتات من طلع الأحلام.
كلّ الأشياء في مكانها لم تتبدل، أنت فقط تبدلت.. اقتربت من الحامل و تطلعت إلى لوحتك ، و كم كانت دهشتك عظيمة.. لم تصدق بصرك.. اللّوحة التحفة هاهنا..
حرت في الأمر، كل المشاعر تطايرت و تماوجت و ارتطمت مشكلة علامة استفهام ضخمة تطرق ذهنك.. تفقدت مكان الإمضاء مرّة ثانية.. قرأت، إنه إمضاؤك.. كيف؟ هذا المستحيل بعينيه!
و تذكرت صوت الشيخ:
- هي لك منذ البدء.
الآن فقط فهمت مقصوده، الآن فقط.
- أيعقل هذا؟ و رددت باقتناع كل شيء ممكن..
و تفحصت اللوحة جيدا.. اللون لا يزال طريا و الخط، المسحة، ضربة الريشة، الكل يحمل بصمتك..
- هي لك لا مراء، لا مراء.
و دقت الساعة انها الثامنة..
التفت على النافذة، إنه المغيب.. حينها و دون سابق إنذار طاف بخاطرك هاجس شقي أقلقك:
- كيف أفسر منظري.. عريّ؟
و قررت بسرعة:
- الشمس المحرقة تحكم سماءنا منذ أمد طويل، فلا حرج من العري إذن.
أغلقت الباب جيدا و نزلت الأدراج..
عجّلت خطوك و سرعان ما تخطيت عنبة الصالون.. تنهدت تنهيدات خفيضة و اقتربت من طفلتك الجالسة على البساط أمام التلفاز تشاهد رسوما متحركة.
حملتها في حضنك و لثمت و جنتيها المتوردتين و أنت تناغيها.. في هاته اللّحظة أطلت زوجتك خلفك و قد شدّ انتباهها عريك.. فندت عنها ضحكة خافتة فقلت بخجل مرتجف:
- لا داعي للضحك يا عزيزتي، إنها حكاية و سيطول شرحها.


تمت بعون الله

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية