قصص قصيرة

قصص تجمع بين التجريب و السفر بين المغامرة و الرقة المتفتحة بين الاكتشاف و البحث في المبهم بطلها هلامي فهو تارة انهزامي غارق في السوداوية وهو تارة أخرى اندفاعي يمجد الانتماء و التألق و في كثير من الأحيان يتبدد تاركا مكانه للمكان ثم الزمان..

9/13/2009

اللّوحة - الحلقة الأخيرة -

و انكمش الضباب و تبدد ليكشف لك سماء صافية تترقرق شمسها بجلال و الطبيعة كأنها عروس مزدانة تتماوج برشاقة في رقصة باليه.
- يا أ الله كأني في معرض تشيلسي للزهور.
عيناك تتفتح أخيرا على الحياة، الضفة الثانية جنة فردوس، أمداء من الأشجار الباسقة المزهرة، ظلال ممددة على خضرة تسر النظر، تشققات جداول يتدفق ماؤها في تموجات فنية مبتكرة.
- سبحان الله، أبعد كلّ ذلك الغبن تنبعث مثل هذه الرحابة المؤنسة، أكيد، السعادة هاهنا..
و تمشي بخطى بطيئة مأخوذا بهذا البهاء، متأسفا على بعد حامل لوحاتك و معدات رسمك.. فرصة إبداع تفوتك يا عدنان، قلت متأسفا..
اقتربت من الجدول و اغترفت منه حسوتين.. الماء بارد منعش..
- ليتك معي يا حسنى و يا خلود لتمرحا معي في نزهة العمر.. هاهنا الزمن يتنفس عنبرا و بهجة طاويا الآلام في ركن النسيان المغبر..
على الرّغم من عريك لا تحس بالبرد.. الدفء المريح يجعلك مطمئنا داخل جلدك المثقوب.. العين عطشى إنها تعب و تعب و لا ترتوي..
استندت شجرة و قلت:
- الآن تأكدت بنفسي من صدقك يا قزم.. نهاية المغامرة آنت و لن يمضي وقت طويل حتى يبدأ شريط الخاتمة في الظهور..
و تضحك بسعادة، الهدوء المرين على المكان يجعلك نحلة حوامة تدعو رفيقاتها لمأدبة فاخرة..
- و ماذا بعد يا عدنان؟ أتقنع بالعيش هنا كالبدائيين؟ أم تواصل بحثك عن البوابة؟
المستنقع و الوحش خلفك و الهضاب المعشوشبة أمامك.. الخيار حتمي و السؤال يبقى دائما مسجى بلا كفن أو قبر.. لتتكل على الله إذن و تمضي قدما فلا تدري نفس ماذا يحدث غدا..
و تترك العنان لقدميك تجول بلا هدى.. تجتاز السهل اليانع و تعلو إلى قمة الهضبة المقابلة.. عند سفحها في الجهة الأخرى ينتصب منزل قرميدي وسط حديقة.. قصدتها بلا تردد.. فتحت الباب الكبير لسور بلا عناء و دخلت.. سرت عبر مجاز مرصوف بالرخام الأبيض، محاط بأشجار الورد و الزينة، تصحبك زقزقات مختلفة، حتى انتهيت إلى باحة شاسعة من الأعشاب و الخضرة في وسطها نافورة كبيرة من الزجاج الملون شكلت على هيأة أربعة طواويس شرعت أذيالها ترسل ماءها في حوض مرمري مزخرف بفسيفساء جمعت بين التجريدية و السريالية وخلفها على بعد أمتار انتصبت الدار الفخمة بهندستها الرائعة..
صعدت الأدراج.. طرقت الباب الخشبي المنقوش.. فانفتح لك لوحده بلا صرير.. خطوت خطوة إلى الداخل و حدقت مليا.. لم يكن هناك أحد.. ولجت بحذر متفحصا المكان..
- هل من أحد؟ يا أهل الدار، عابر سبيل يطلب مساعدة..
غير أن الصمت ساد بلا اعتراض..
- من الخطأ الاعتقاد بفراغ مثله قصر.. قلت في نفسك.. أيعقل أن يهجر هذا النعيم؟
أرائك في كلّ مكان، زرائب مفروشة، ثريا متدلية و جدران مزدانة بألواح طبيعية رائعة تمتد إلى أعلى السلم الموصل إلى الطابق الأول..
- يا أهل البيت عابر سبيل يطلب مساعدة.. هل من مجيب؟
- لا أحد.. إذن البيت فارغ.. هذا ممتاز.. أين المطبخ؟
دخلت أول حجرة ، كانت فارغة ثم الثانية بجانبها إنها حمام..
- ممتاز.. قلت بفرح أسطوري..
فتحت الحنفيتين.. ماء دافئ يتصبب من مرش في السقف..
- جميل.. أحتاج إلى حمام.
نظرت إلى الجدار الأيمن، كان هناك صابون منشفة و منظف شعر في قنينة زجاجية زرقاء بدون ماركة.. لأول مرة تحس بنشوة الماء يتصبب على إهابك دافئا مطهرا منعشا.. التعب لوحده يتبدد، حتى الأفكار الصدئة تتلاشى تحت الماء.
انك محظوظ فعلا يا عدنان، لكنك تبدو كشحاذ جاء يطلب صدقة فتحول في لمح البصر إلى محتل له سلطان و جاه.. لم يعد للأخلاق أهمية في هذا الوجود، في صراع البقاء كلّ الفضائل تزول.. تسخر من ضميرك المتفوز.. كم كنت في حاجة إلى حمام.. و ها أنا بعد ثقل و تعب أشعر بخفة و نشاط.
تجفف جسدك جيدا و تتركك الحمام إلى الصالون.
- سبحان الله .. تقول مندهشا و قد تموضعت أمامك مائدة فوقها مأكولات و شراب.. من أين نبتت هذه البركة.
تقدمت بفضول و عاينت المكان ثانية و ناديت:
- هل من أحد في هذا البيت؟
فإذا بصوت ذكري مبحوح يتناهى من الطابق الأول.
- لا تكثر من الأسئلة، اجلس و خذ راحتك.. المأكولات أعدت لك.
- آسف سيدي، اعتقدت أن البيت مهجور.
- لا يهم.. طلبت المساعدة و ها قد أجبت طلبك.
- فأطل خلف الإفريز شيخ ملتح بزي عماني و قد أشرف محياه بالوقار و الطمأنينة.
تجمدت أطرافك السفلى في مكانها كأن جليدا قطبيا هب عليها و تسللت إلى نفسك رهيبة غير مبررة.
أقبل نحوك الشيخ بتؤدة، و قال:
- تفضل اجلس.
و جلست في مقعد بجانبك، بينما جلس هو في المقابل.. بدوت كصبي فوجئ متلبسا بشقاوة.. لم تفهم سبب هاته المشاعر المباغتة اللامبررة.. تمالكت نفسك.. بسملت.. حملت ملعقة الفضة و تذوقت الحساء، كان فعلا لذيذا، حساء سمك كما تحبذه دائما.. فقلت بلباقة:
- حساء لذيذ، طباخك ماهر يا حاج.
- أعجبك؟
- بكل تأكيد.
- إذن كل هنيئا مريئا.
- أرجو أن تعذرني، معدتي خاوية.
- الوجبات تعد لتؤكل يا رجل.
و بلا تردد اندمجت تماما مع الأطباق المتنوعة و الشيخ الوقور يراقبك مسرورا مكتفيا بفنجان قهوة تفوح رائحتها زكية قوية.
الشبع نشوة منتصر يحلو بعدها الاسترخاء و سيجارة .. قلت في نفسك و أنت تستوي في كرسيك ماسحا بقيا المأكولات من شفتيك.
- الحمد لله، جزاك الله خير و بارك في رزقك يا حاج.
- بالهناء و الشفاء..
و انتصب الصمت جدارا صلبا بينكما، هو مكتف بابتسامة و أنت بالتحديق في المكان، ثم قلت:
- ذوقك راق، الديكور ممتاز.
- شكرا..
- هل تسمح لي بسؤال؟
- تفضل..
- أتعيش وحدك في هذا العالم المبتور؟
فابتسم، وقال:
- لا بل رفقة عائلتي لكنهم غائبون الآن.
كلّ الأسئلة داهمتك على حين غرة و لم تدر من أين تبدأ.. ثم لمَ الاستفهام؟ منذ أن وطئت قدماك هذه البؤرة المبهمة و أنت تسأل.. ما فائدة السؤال حينما تغيب الأجوبة.. ما ذنب هذا الشيخ الكريم فيما يحدث لك؟ هل جزاء معروفه إزعاج و تشنج فكري؟
- عليّ بالانصراف إذن و لأجد الجواب بمفردي.. قلت في نفسك.. دائما كنت وحيدا في غشائي المكتوم.. فنانا مصلوبا في سرداب الإقصاء و التهميش.. سأكتفي بسؤاله عن الطريق المستقيم.
تململت في مقعدك و انتصبت واقفا بكل أدب و قد تنور ثغرك:
- علي بالانصراف الآن يا حاج.. شكرا مرّة ثانية على معروفك و جزاك الله عني كل خير.
فرنا إليك في استغراب، و قال:
- و إلى أين؟
- إلى حيث شاء لي ربي.
فقام من مكانه، و قال:
- طريقك هنا ينتهي يا عدنان.
سيرت كلماته قشعريرة في جسدك و كأن التهابا سُير فيك.
- أرجوك اتبعني.. قال لك و هو يقصد السلالم.
لم تنبس بلفظ.. الكلمات تبعثرت في تلافيف دماغك المتشنج.. فتبعته كالمنوم مغنطيسيا.
عرجتما الإدراج، و دخلتما أول غرفة.. كانت واسعة سقفها مزخرف بجبس منقوش تدلت منه ثريا على شكل ذرات ماس محدودبة، وجدرانها علقت عليها لوحات من جميع الأحجام و المدارس..
عاينت متأملا المكان.. لوحة بالجدار المقابل سحرت لبك و جذبت ناظريك كالمغنطيس.
تقدمت نحوها مشدوها، و أنت تهتف:
- يا إلهي، إنها ذروة الإبداع! هذا ما تمنيت فعلا تشكيله.
بحثت عن التوقيع.. لم تعثر عليه.. لوحة بلا توقيع.. لا يهم.. ما يهم حالة الإعجاب اللامتناهي التي تكهربك.. الأشياء ماعت و توارت خلف حجاب كثيف، لم يبق غيرك و اللوحة.
تجريدية في العمق تتداخل مع تكعيبية في الأسفل و الأعلى مرتبطة بترج من جوانب سريالية تؤول الآية الكريمة مائة و إحدى عشرة من سورة النحل كتبت برسم كوفي مزخرف في الوسط.
- يا له من انسجام .. قلت بجرس مولع.. تكامل تداخل متقن في اللّون و الخطوط.. هذا فعلا ما كنت أبحث عنه.
فقال الشيخ:
- هي لك..
فالتفتت إليه في اندهاش متشككا:
- ماذا؟
- هي لك.
فالتفتت إليه في اندهاش متشكك:
- ماذا؟
- هي لك.
- اللّوحة؟
- أجل، اللّوحة.
- هذه التحفة؟ مستحيل!
فقال، و قد اقترب منك و كلّه انشراح:
- و لمَ العجب؟ هي لك منذ البدء.. عانيت، ثابرت و ها قد وجدت المرام.. بصمتك يا رجل ستكون عميقة متمردة طاهرة من العفن.
- و لكن كيف؟
فقاطعك مطوقا كتفيك، قاصدا برفقتك في خطوه الضيق وسط القاعة حيث خطّ على البلاط الرّخامي مربع مزدوج داخله هلال صغير متلألئ.
- لا تشغل بالك بمثل هاته السفاسف.
و أوقفك داخل نصف دائرة الهلال و خفق يبتعد عنك و هو يتمتم في خشوع ببضع كلمات غريبة و أردف:
- الآن تبتلعك هلامة ضوئية و في اللحظة تشكلت حولك كالجدار، ستخترق الزمن و المكان و في لمح البصر تمضي إلى عالمك المائج.
أحاطك الضوء و الطمس مجال رؤيتك و طفت في الهواء كالفقاعة.. كلمة واحدة انفجرت مدوية:
- اللّوحة!
فقال الشيخ:
- ستجدها إنشاء الله لا تقلق.
و تردد صداه ثقيلا في مسمعيك.. الفضاء ماع بك بسرعة لم تدع لك حتى فرصة الوداع الأخير.. و غار المكان في فراغ وردي وهاج خبت فيه نبضاتك إحساساتك حتى استسلمت بلا مقاومة لسطوة السكون.. وحده الفرح تبرعم في عروقك كالعليق و أورق باقات زنبق و مسارات تضج برؤى مفعمة بالسكينة و اللّون.
و كعادتك في مثل هاته الحالة رحت تتمتم في هذيان نشيدك المحفوظ:
- غدا أناجي في الضياء حبيبتي
و أذيع في مقل الضحى ألواني
غدا أبعثر بين أهلي فرحتي
و أضم في دفئ الهوى خلاني.
و لم تتوقف إلا و أنت تشعر بقدميك تلامس الأرض من جديد و الهلامة تتفتح و تتلاشى كأنها لم تكن..لاح لك مرسمك كما تركته متسكعا في بؤسه يستاف صبابة و حنينا إليك، أوتاره الخرسى تلامس البعيد.
أخيرا، أخيرا تحققت أوبتي.. أخيرا أشم رائحتك يا مرسمي.. أخيرا تداعب أهدابي المتعبة طلعتك المتورمة.. هتفت بنشوة و أنت تتفقد أشياءك الحميمية.
فيك يا معشوقي تذوب أهاتي و تصير مسرات تتسلق الخطوط و اللّون.. فيك أثمل و أمحو الضجر المعربد، أردمه في الركام.. فيك أمدّ نزوتي تقتات من طلع الأحلام.
كلّ الأشياء في مكانها لم تتبدل، أنت فقط تبدلت.. اقتربت من الحامل و تطلعت إلى لوحتك ، و كم كانت دهشتك عظيمة.. لم تصدق بصرك.. اللّوحة التحفة هاهنا..
حرت في الأمر، كل المشاعر تطايرت و تماوجت و ارتطمت مشكلة علامة استفهام ضخمة تطرق ذهنك.. تفقدت مكان الإمضاء مرّة ثانية.. قرأت، إنه إمضاؤك.. كيف؟ هذا المستحيل بعينيه!
و تذكرت صوت الشيخ:
- هي لك منذ البدء.
الآن فقط فهمت مقصوده، الآن فقط.
- أيعقل هذا؟ و رددت باقتناع كل شيء ممكن..
و تفحصت اللوحة جيدا.. اللون لا يزال طريا و الخط، المسحة، ضربة الريشة، الكل يحمل بصمتك..
- هي لك لا مراء، لا مراء.
و دقت الساعة انها الثامنة..
التفت على النافذة، إنه المغيب.. حينها و دون سابق إنذار طاف بخاطرك هاجس شقي أقلقك:
- كيف أفسر منظري.. عريّ؟
و قررت بسرعة:
- الشمس المحرقة تحكم سماءنا منذ أمد طويل، فلا حرج من العري إذن.
أغلقت الباب جيدا و نزلت الأدراج..
عجّلت خطوك و سرعان ما تخطيت عنبة الصالون.. تنهدت تنهيدات خفيضة و اقتربت من طفلتك الجالسة على البساط أمام التلفاز تشاهد رسوما متحركة.
حملتها في حضنك و لثمت و جنتيها المتوردتين و أنت تناغيها.. في هاته اللّحظة أطلت زوجتك خلفك و قد شدّ انتباهها عريك.. فندت عنها ضحكة خافتة فقلت بخجل مرتجف:
- لا داعي للضحك يا عزيزتي، إنها حكاية و سيطول شرحها.


تمت بعون الله

اللّوحة - الحلقة الثالثة -

أفقت.. عظامك كلّها تؤلمك، خاصة مفاصل عنقك.. ببحة قلت:
- نمت.. من فرط إعيائي نمت..
رفعت رأسك المرتخي على البلاط البارد.. رنوت القدام فرأيت نورا باهتا.. نبست في فرح مريض:
- المَخرج قريب.. هيا يا عدنان.. تشجع.. المَخرج على بعد خطوات..
جمعت ما تبقى من قواك و زحفت نحو النور.. قرقرة أمعائك تعلن جوعك.. ابتسمت و زحفت:
- أرجو أن أجد هناك خبرا و شربة ماء.. أجل خبزا.. لا أطمع في أكثر..
الفجوة اتسعت، عادت في ارتفاعك.. وقفت و دلفت خارج الفجوة غير أن القنوط سرعان ما حلّ مكان الابتسامة و الهمة الفاترة و الوجه العبوس مكان الاشراقة..
ألفيت نفسك على قمة منحدر شديد.. يحاصرك الضباب من الجهات الثلاث.. بقربك صخرة محدودبة و بيمينك شجيرة يابسة.. الرؤية معدومة.. قعدت الصخرة المحدودبة تتدبر أمرك ناكثا الحصيات المكعبة بعود يابس التقطته، مجترا في الآن نفسه كل ما مرّ بك..
تأملت المشهد المرعب أمامك متحسسا الخطر الصائت كالعاصفة خلف هذا الضباب الأحمر الأجوري..
لو تقدمت شبرا لهويت إلى درك أسفل لا أعلم قراره لو بقيت لهلكت جوعا، أما الأوبة فنتيجتها واضحة لا ريب فيها .. ما العمل اذن؟ ما العمل يا عدنان؟ شغل دماغك يا شاطر الخصم المخفي وضعك في الاشاك.. ماذا بوسعك فعله حيال هذا اللغز؟
فكرت طويلا طويلا.. حتى رنّت لكمة قاسية على رأسك، فهرعت واقفا و الحزم مشرق في عينيك، و قلت:
- لابد من المغامرة، أجل لابد..
رميت بالعود بعيدا.. خلقت مئزرك المتسخ.. شمرت أكمام قميصك الأسود.. قرأت التشهد.. نفثت في كفيك بالمعوذتين مسحت وجهك.. و أعلنت:
- أيها المجهول المتمترس خلف الضباب أني آت..
و قفزت مكبرا..
هويت على قدميك كالشهاب المحترق.. في ثوان ارتطمت بسطح ماء.. غصت إلى العمق.. فتحت عينيك.. كل شيء بدا لك أحمرا.. العمق، الأعشاب، السمك.. بصعوبة سبحت نحو السطح.. لطمتك الأمواج.. تلاعبت بك.. التيار الشديد جرفك.. ثبت خراطيمه حول عنقك و جرك بعنف.. الماء المّر كاد يخنقك.. وقع المفاجأة مكنه من التسرب إلى داخلك، صرخت:
- الن...ج....دة.
الصدى وحده أجابك..
ارتطمت مياه النهر بك عكرة، مصطخبة، جائشة يصفق بعضها بكلك، و يشرئب عليك، فتضطرب مذعورا، مهددا بالغرق، بالموت..
أنت سباح.. قاوم التيار.. حاول الوصول إلى الضفة.. و أي ضفة.. لا توجد ضفة.. الضباب الكثيف يغلف الرؤية .. قلوب الكائنات المخفية عليها أكنة و في آذانها وقر.. إنهم لا يسمعون و لا يبصرون و لا يتقدون..
لا تقنط يا عدنان.. أمسك نفسك.. استجمع شجاعتك و قوتك اضرب الماء برجليك و يديك.. اصفعه حتى يحملك بعيد عن الموت.. أنصت لولولتها.. إنها تذعن لك.. تحملك فوق أكتافها، تزحلقها.. غدوت خفيفا كريشة، مزلاجا مائيا يراوغ أمواج الهادي..
ثابر على عنادك حتى و أنت تهوي مع الشلال.. حتى و أنت تغوص إلى العمق مخلخلا من أثر الصدمة.. كاد يغمى عليك لولا البرودة.. ارتخيت فاقدا حمولتك، ماسكا نفسك.. إنها الخبرة في مقارعة البحر تأتي اليوم لنجدتك مما حاق بك..
طفت بكل سهولة، عدت خشبة مصفحة تعوم.. تتنفس بهدوء.. الهواء النقي يملأ رئتيك.. يرخي أعصابك المنقبضة تلمست المسطح المائي.. تحسست نعومة و هدوءه.. فتحت عينيك.. كان هناك صفاء.. قرص الشمس الأصفر يتوهج مداعبا سرب لقالق محلقة..
بقيت على حالك لفترة سامحا للصمت و الذهول أن يسودا.. حينما عادت إليك بعض قواك تململت و سبحت.. الآن فقط تنتبه لبياض الماء.. انك تسبح في نهر كاللبن.. بفضول تذوقته، لم يكن له أي مذاق.. كم تمنيت أن يكون لبنا.. الجوع يرهقك، يزعجك..
أخيرا بلغت الضفة.. مشيت بضع خطوات و استلقيت على الرّمل.. كان دافئا و مريحا.. أغمضت عينيك و نمت تحت الشمس، إنك مرهق جدا..
إنني في هذا الدرك النابت من الأساطير البابلية قشة يابسة في مهب الرّيح الاستوائية.. أجدني عاجزا عن الفهم تتلبسني الحيرة الممقوتة و استفهامات لا أرى لها قرارا.. حبطت كلّ محاولاتي للتفسير، لا أجد أثر خيط رفيع.. أبلس فكري و نام..
التثبيط أمسى لحافي الوحيد في هذا العراء المتحرك.. الرّمل تحتي يدعوني للإغفاء يخبرني أن الأحلام خندقي المنيع من هذا المصاب..
أتمدد متوسدا ذراعاي.. أعاين السماء المترقرقة و شهبا تجرجر أذيالها.. أتنهد زفيرا طويلا يؤانسني.. أتملى النجوم.. أنسج منها لوحة لجمال أفرديتي ينشج ثم يبتسم.. يحملق فيّ.. يمد شعاعا ناعما إلى عيناي.. يدعوني إلى العروج.. صوتي ينوح:
- سارة..!
أمد يدي.. أتمطط.. جسدي يعلو طافيا في الهواء.. سلاسل من حديد تبرز من الأرض ، تكبل رجلاي جدعي عنقي يداي و تجذبني، تثبتني.. الجسد الملائكي يطرق مودعا، متحسرا.. صوتي يصيح:
- أرجوك سارة.. لا ترحلي..
حسما كالجحافل الغازية تنداح تحتها و حولها.. تدثرها .. تخفيها.. صواعق ترعد.. سياطها المحمومة تزلزل العراء.. ريح صرصر عاتية تصول.. المطر يندلق سيلا جارفا.. صوت من بعيد يعلن:
- أيها العالم الهمجي الطوفان سيبتلعك.. معاصيك ستلتهمك..
قهقهة حادة تؤز الصواعق أزا، تهتف:
- أيها العالم أدعوك إلى الخلاص فاتبعني.. اتبعني..
الماء العكر يحتوشني يغرقني.. كل عضلاتي تنقبض.. تتمرد.. تجاهد الغرق.. تجلب على الحديد بكل قوتها.. وميض الحياة يخفق، يخفق.. أتخبط كالممسوس.. نفسي ينقبض، يضغط على صدري.. أركل، أرفس و أصيح:
- الهي إني مكظوم و أنت أرحم الرّحمين..
أعب الماء العكر.. عدت على شفير البئر.. أنتفض..
- لا أريد أن أموت.. لا.. لا..
العرق يتفصد من كلّ مسامي.. نبضي مفزوع و نفسي متسارع.. و الدمع الدليل يترقرق في مقلتاي..أجيل النظر فيما حولي.. المكان كما هو لم يتغير.. العراء ناشف لم يتبلل.. السماء صافية لم تتبدل.. النور يسكنها الآن..
أغمض عينيك و استلقيت متنهدا حامدا اللّه على النجاة من الكابوس.. لا راحة على هذه الأرض الملعونة.. النوم كوابيس و اليقظة مغامرة مستمرة.. لا راحة على هذه الأرض الملعونة.. فتحت عينيك.. أرخيت كلّ أعصابك.. رحت تستنشق الهواء بنهم.. تستنشق الحياة.. هذه النعمة الرقيقة المحفوفة بالمكاره.. غير أن الهم الراسخ يتداعى كتنين بثلاثة رؤوس ينفث في وجهك أبخرة محمرة قديمة حامزية تلفح جبهتك تحرقها، تحيلها بركا حمراء قانية..
عطشان أنت و جوعان.. النهر أمامك قم إذن و أروي جوفك.. بياضه ر يعني أنه ملوث.. بياضه جزء من سريالية هذا الوجود.. قم إذن.. تشجع لا تخف.. الخوف سمة الجبناء و أنت الآن بطل.. مغامراتك السابقة أثبتت لك بطولتك، بطل أنت نابع من لعبة فيديو مثيرة..
تقدم يا عدنان.. تقدم نحو النهر..
تتقدم، تغطس شفتيك في الماء و تعب.. لم يعد يهمك بياضه، المهم الآن إرواء عطشك.. تغطس رأسك كلّه و ترفعه نشوانا.. برودة الماء نشوة مميزة.. امتلأت معدتك ، لا تشعر بألم أو رغبة في التقيء.. تحسن حالك عليك بمواصلة السير.. الطريق طويل و واحة نخيل و رمل أمامك، مساحة أخرى للتيه..
تتقدم بخطى مثقلة.. تتطلع إلى أعساف النخيل.. النخيل عقيم و الرمل يفور.. لمَ اختارتني الأقدار بيدقا للعبة طويلة لا أعلم خصمي فيها.. خصمي متخفي ماكر يحسن المراوغة و اختيار الفرص..
إنني بلا حول و لا قوة، سلاحي الوحيد حفظ من اللّه و أجل مكتوب.. إلى أين تمضين بي يا رجلاي؟ إلى أين؟ ماذا خلف السكون و الفراغ المطبق؟ أعاصفة أم فرج قريب؟ الله وحده يعلم.. يعلم أين أنا و لمَ أنا هنا و لمَ لم أصلي الوقت.. لا أدري هل أًذن للمغرب أم لا يزال؟ أم أن صلاة العشاء قضيت.. سأصلي، أجل سأركع ركوع السفر لأني في سفر غير مبرمج..
زمن الممشى تمدد و الواحة استحالت بلا منافذ.. السماء أظلمت.. لأول مرة أظلمت.. النجوم تترقرق من بعيد في هذا الصفاء و السكون و أنا مازلت أسري بلا دليل..
- آه، عييت.. كل الطيور إلى أعشاشها هرعت إلا طيوري لا عشا و لا كفنا.
ارتح إذن يا عدنان.. ارتح و استمع لأهات أمعائك و قدميك.. النخلة مضيفتك و الرمل لحافك الآن.. لا جدوى من الكد.. الضياع حظك في هذه الجغرافيا المنسية..
تنبطح تحت النخلة.. تفرش الرمل متوسدا حذاءيك.. لا أنيس لك غير الوحدة و الصمت و شيء من الماضي..
- اشتقت لعمر خيرت، لبتهوفن، لموزار.. افتقدتك يا فيروز.. افتقدت ألحانك المسافرة في الشجن و الأمل.. اشتقت إليك طفلتي الصغيرة..
اشتقت لأشيائك الحميمية ، لدفئ قهقهات طفلتك المرحة، خشخشة ريشتك العرجاء، رسائل الخطوبة و الحب الفتي.. لأرجوحة طفولتك في بيتكم العتيق في أعلى الربوة و شجرة التين و زهر اللّوز.. كلها تطفو إلى السطح.. تفتش لك على ابتسامتك الطرية.. تلملمها و تنفثها رذاذا باردا على وجهك المنهك..
عيون المغيب تشيعك على الشاطئ.. تطبع على الرمل أقداما عارية لبدن يافع مفتول.. يد بيضاء بضة تطوق يدك اليسرى.. فتنة عذراء تعانقك.. عيناها السماويتين ثملتان و أنت عاشق عاشر قيس و المجنون منذ السهم الأول..
الموج يدندن يتكلم يحكي رواية زمان و ينشد أغاني عرائس البحر.. عيون المغيب تعد أنفاسكما الخافتة و الضحكات الوردية المترقرقة..
- أتحبني كما أحبك؟
- كلّ الأجوبة لا تكف هذا السؤال..
- ليت أيام العسل تبقى إلى الأبد..
- ستبقى يا حبيبتي ما دام نبضي المتيم لا يفتر..
تتركها على الرّمل و تقفز بمرح طفولي في الموج.. تنتفض و ترميها بالماء المالح.. الرذاذ يرعشها فتدعوك لتوقف.. لكنك تستمر.. عدت طفلا في السابعة.. استحالت طفلة في السادسة.. تقفز خلفك بملأتها المزركشة و خمارها الأرجواني.. تغوص إلى الرمل كالسمكة و تقبض حفنة منه.. تستقر الحفنة على شعرك.. تسبح هاربة مزغردة.. تسبح خلفها برشاقة و تغوص متخفيا.. لم تعد تراك.. مكوثك تحت الماء طال.. الوسواس يحاصر فرحتها.. الابتسامة تخبو و القلق يصحو..
- عدنان لا تمزح بمثلها مزحة..
صمت...
- أعلم أنك مخادع..
صمت ثقيل...
- عدنان أرجوك.. تصيح المسكينة..
أناملك تداعب من تحت الماء ساقيها .. تفاجئها فتضحك و تطفوا أنت أمامها بكل هدوء.. الماء البارد ينساب على بشرتك رومانسيا شبقا.. الغروب يموسق المكان..
- متيم بك يا عروس بحاري حتى الجنون..
فتبتسم برقة ثملة و يدها تحثوا على رأسك حفنة رمل مبلل..
- لا تكرر فعلتك.. سأموت..
- أنا من سيموت.. أمعائي تثوغ و الجوع لا محالة هالكي.. أريد النوم.. أبغي الراحة و الانعتاق.. لكن واحسرتاه، النوم هاهنا مأساة أخرى.. مسرح مفضل لتمثيليات كابوسية فظيعة.. أجفاني مثقلة، لوحدها ترتخي، لوحدها تسدل، لوحدها تظلم..
نار.. نور.. عرق.. إزعاج مستمر..
و أخيرا تستيقظ.. تفتح عينيك بمهل على أمل قديم.. الشمس طلعت منذ فترة.. الواحة كما هي لم تتغير.. خاب رجاؤك يا عدنان.. الكابوس لم ينه بعد.. هناك استمرارية يا مسكين..
تفرك عينيك.. تتمطط متثائبا.. تحمد الله على البعث الجديد و ترجوه الخلاص القريب.. تقف، تعاود التمطط.. تمديد العضلات متعة فريدة، تقول:
- لا قهوة، لا شطائر بمربى التين.. لا سيجارة.. البؤس يا صاحبي يصاحبك كالظل.. المهم أي سبيل أسلك؟
تعاين المكان.. هضبة أمامك في قمتها سدر متفرع.. تقرر..
- لأصعد الهضبة لعلى و عسى..
و تتقدم..
العطش أنضاف إلى الجوع و شكلا مطرقة و سندانا و أنت بينهما مسجى..
تطأ القمة.. تفاجئك بانحدار رملي و ربوة عالية في الجهة الأخرى.. دون نقاش تتقدم.. تنزلق فوق الرمل متكورا و تقصد الربوة العالية.. تخترق الأحراش و الأشواك.. لم يعد يزعجك الحذر العالق بعنقك و لا ضجيج الرؤوس المشرئبة بداخلك.. حتى الدم النازف من ركبتك لا يزعجك.. عيناك مسمرتان بالصخرة الطويلة المستطيلة أطلت اللّحظة.. لغزها يجذبك، تقول:
- سرّ جديد يثب أمامك متحديا يا عدنان..
إنها أمامك.. تلهث.. لكنها أمامك شامخة كالتاريخ تدعوك لتأملها.. كتابة بخط عربي نسخي واضح منقوشة عليها.. تقرأ بصوت مسموع:
- أيها الرائي، ع ذاتك، استشرف منابع الخير الدافقة فيك.. انحز إليها و أردم بؤر السواد في قاع نفسك.. كن شفاف ليتجلى لك الكون بكينونته الأصيلة، ليخلع بدوره الأقنعة التنكرية و يفر عريه المتآكل منذ البدء..
لا تنخدع بالأرق المتوهج، لا تقبل دعوته لشرب الانبهار.. مزق حلية الجذب الممتدة إليك.. ركز زاوية أخرى للتحديق.. العمق محق رهيب للروح، مأساة للبشرية..
- إنها حكمة، نصيحة .. تقول في نفسك.. لكن من نقشها بإبداع؟ من قالها بعد تفكير؟ إنها دليل مادي على وجود عقل ذكي مفكر هاهنا.. أي طريق سلك؟ أكيد انحدر إلى غابة السرو..
و تنحدر إلى الغابة بدورك تحث المطي في الممرات الملتوية.. تنتبه إلى نبات البقوق، طعام الجد و الجدة أيام الاحتلال و الفقر و الجوع الطويل.. و أنت جائع مثلهما و سجين.. تحفر النبات على أصله.. تجني من جذوره العميقة حبوبا صغيرة.. تتردد قليلا لكن تمضغها.. طعمها مرّ يحرق الحلق.. فتبزق النفاية و تزعق:
- اللعنة، كيف كانوا يأكلون هذا العلقم؟
و تنتفض.. تعاين المكان بدقة باحثا عن شيء ما تأكله.. تتفطن لفطر بين أشواك السدر.. تمدّ يداك إليه بحذر.. شوكة توغزك ثم أخرى.. تمطط أصابعك.. تحكم قبضتك حول الفطر.. لسعة رهيبة توغزك.. تسحب يدك بخفة و ألم.. تزعق:
- اللّعنة.. اللّعنة..
بسرعة تنزع حزامك و تشده حول ساعدك.. الدم يفور و السم ألم رهيب يرعشك.. الرّؤية تبهت و تتكمش خلف سحابة سوداء كثيفة.. تفقد توازنك و تهوي كالنخلة المجتثة من جذورها..
حرارة تلهبك و عطش بعمر الأرض يعتصرك.. بجهد جهيد ترتفع.. ترفع رأسك محاولا النهوض، غير أنك تترنح و تنطرح أرضا.. الوهن تمكن منك يا عدنان.. الأفعى باغتتك هذه المرة و نفثت فيك سمها القاتل..
- يا إلهي...
و تجمع قواك مرة أخرى.. ترتكز على ذراعك الأيسر، غير أن مرونته تخونك.. لم تعد قادرا على الحركة.. الوهن يسيطر عليك كاملا.. الحمى خفقت تمازحك.. توريك شبحا قزما جالس القرفصاء بجانبك الأيمن.. لم ترتبك كما من قبل.. باردة أعصابك.. عيناك الناعستان معلقتان به.. الكمائن أضحت عادة لا تجر معها الخوف.. إنك في ضعفك أكثر اتزانا و رباطة جأش.. شجاعتك الغير عادية أكيد تضايقك و تضايقه.. تنبئه بالزلزال القادم من بعيد، ببخار حاشد يتماوج.. الغبار يتكاثف يتطاير.. موسيقى الغرب الأمريكي تدندن في أذنيك.. ترتعش اللحظات و يرتعش معها جلدك من الحمى..
يخلع عينيه الضيقتين من عينيك.. ينهض.. يقصد موقد النار.. يقتعد صخرة مستطيلة.. يحمل غصنا طريا و يقلب به الجمر.. إبريق القهوة يغلي.. يرفعه.. يكب كوبا و يعيد الإبريق إلى مكانه..
هيأتك أيها القزم الغريب عادية.. أتدري لما؟ لأنها و بكل بساطة مبتذلة متداولة.. رأس غزير الشعر بأذن صغيرة مدببة و أنف صغير يعلو فما صغيرا بأسنان صفراء كاملة و ذقن أمرد.. ثيابك الشبيهة بثياب الهنود الحمر لا تستدعي التعجب.. أكيد أنك وهم يقلب شفتيه، يحاول في خفة بهلوان مراوغتي و تمرير الكرة بين رجلي و تسجيل الهدف القاتل..
تتذوق القهوة متمتما بجرس مذيع الأنباء التعيسة:
- أنت محظوظ.. محظوظ فعلا..
تهمس:
- لذلك لفظتني القبائل من حفلتها الراقصة.
- الحية الرقطاء سمها قاتل.. حقا إنك محظوظ و محفوظ..
تختان نفسك:
- ليتني مت و ارتحت و أرحت..
- الموت غاية الجبناء..
- و رغبة المنبوذين حين ينتحر الأمل في المستنقعات..
يبتلع قطعة جبن، يمضغها في تلكؤ، يذيع:
- الأمل نحن نصنعه، تكفي إرادة البقاء و رغبة الانتصار..
عتمة خفيفة تغشي حدقتيك.. حمى ارتدادية تجرجرك و تحملك بعيدا عن الوعي..
تنزلق بالمزلاج كالكرة الحديدية.. تقذفك البالوعة في الوحل.. تتدحرج تتشقلب و ترتطم بالتراب.. تهوي في منحدر.. يتلقفك رمل متحرك.. تغطس في بركة الماء البارد.. تسبح بوجل، بهلع.. نفسك يسابق التيارات المائية.. تطفو على السطح.. يجرفك شلال شديد الانحدار.. يردمك في كومة قطن منفوش.. تحاول النهوض.. تسقط تزحف.. يداك تلامسان اليابسة و العشب الأخضر.. ينبوع ماء منعش.. تعب منه حتى ترتوي، تعب و تعب..
تفتح عينيك.. القزم يكمد حرارتك بأوراق مبللة.. يحاول جاهدا مساعدتك على ابتلاع محلول بارد.. تبتلعه على مضض ثم تغفو و فمك مفتوح..
إني أموت، إني أسافر بعيد.. وداعا يا حسنى، وداعا خلود، وداعا أيتها العائلة الحنون، القطار سينطلق بي هذه المرة دون رجعة.. إني راحل إلى الرفيق الأعلى.. حسنى أحبك كما أحببتك أول مرة إلتقت عيناي بعينيك.. خلود لا تنسي أباك الحنون..
الدموع تغلبك.. الفراق صعب، الفراق مأساة.. الدموع تقهرك تخنقك.. المسافة بين الأحبة تزداد بعدا، تصرخ:
- لا ابقوا معي..
تيار هواء بارد منعش يداعبك.. ينبهك أنك حي.. أنك تتنفس الوجود الدنيوي.. النور يمسد بشرتك الشاحبة و زقزقة طيور جميلة تطرب مسمعك.. حفيف أعرف الشجر ينعش حواسك.. ترفع كفك الأيمن و تمسح عرق جبينك.. تتنهد طويلا حامدا الله على البعث الجديد.. تتطلع للمحيط.. تجذبك مائدة حجرية اصطفت فوقها مأكولات جاهزة.. تنهض قاصدا المأدبة.. أمعاؤك تعوي، الجوع يعتصر ما تبقى من معدتك..
حمام مشوي، سلاطة بالطماطم، بطاطس مقلية بالبيض، تفاح أصفر طازج، مشمش، قنينة عصير البرتقال الطبيعي.. شفتاك تتلمظ.. كالهر المتربص تنقض عليها دون استئذان او دعوة.. الجوع لا يسأل الإذن، حتى بسم الله نسيتها.. همك الآن الشبع و تعويض ما خسرته من حريرات كثيرة.. الطعام خلق ليطعم الجياع و أنت جائع، جائع حتى الموت..
بنهم تأكل، بنهم تقضم بسرعة و بنهم تسقي جوفك.. نستلقي مسندا ظهرك لجدع الشجرة حامدا الله على النعمة.. الآن فقط تحس بطعم الرّاحة بلذة الحياة.. الآن فقط تبسمل على الأول و الآخر.. فقاعات الامتلاء تتطاير من فمك و منخريك..
رنة رقيقة تقرع مسمعك:
- أعجبك الفطور..
تلتفت، القزم الطيب واقف محملا بأكوام الحطب.. ترد بابتسام:
- أجل، الحمد لله.. بارك الله فيك و في رزقك و جزاك عنا كل خير..
تقدم بضع خطوات، ألقى حمولته ثم اغتسل في الترعة القريبة و جلس بدوره إلى المائدة..
- لم تترك لي غير الفتات..
احمرت وجنتيك:
- آسف..
- شبعت؟
- الحمد لله.. شكرا على كل شيء..
- هذا واجب.. فلا شكر إذن..
تتفحصه و هو يأكل بانتظام و روية كالخجول.. حرارتك اعتدلت و عادت إلى طبيعتها.. تتفقد موضع اللسعة.. لم يعد لها أثرا.. الثقبان اختفيا من الجلد.. الكمدات العشبية مفعولها مدهش..
ولم الاستغراب؟ كلّ الأشياء في هذا الوجود مدهشة، حتى أنت عدت مدهشا، اندمجت كليا في الديكور، لا فرق بينك و بين هذا القزم المهذب، الكائن المفكر الوحيد على ما يبدو.. تسأل بخجل:
- هل لي أن أسألك؟
فأومأ موافقا..
- أين نحن بالضبط؟
حدق فيك مليا ثم قال:
- في غابة السرو!
- لا أقصد ذلك..
- و ماذا تقصد؟
سكتت قليلا ثم قلت:
- نحن في أرض غير الأرض!
فابتسم:
- يكفي أن تعرف أنك في غابة السرو، أما هل أنت على الأرض أم في السماء فتلك أسئلة سيجيبك عليها الآتي.. كلّ ما أستطيع قوله لك.. و نهض من على المائدة حامدا الله على النعمة.. أن العالم مليء بالأسرار..
حرزت المقصود من كلامه.. شيء ما يمنعه من البوح.. يسألك و هو يقطع الحطب إلى قطع صغيرة بفراعته:
- حائر أليس كذلك؟
لا تجيب، عيناك تفصحان بالصراحة..
- كلّ عباد الله إلا و يمرون بامتحان، الكيس الفطن منهم من يفقه ماهية النجاح و الخلاص.. لا تقلق وصولك إلى هاته المرحلة المتقدمة دليل مادي قاطع على قرب خلاصك..
و تقف متمططا ثم تتقدم نحوه..
- هل أساعدك؟
- شكرا، العمل بسيط لم يبقى إلا القليل..
- هل طال مرضي؟
- قليلا..
- أرى الرّحيل..
فتوقف عن شغله..
- حسنا سأرشدك إلى الطريق..
ترك فراعته ثابتة في الخشب و تقدمك بمهمة و نشاط.. و بتهذيب برتوكولي قال لك:
- اتبعني من فضلك..
خطواته السريعة دفعتك لبذل جهد جهيد للحاق به و كأنه يتهرب من استفهامات المتلاحقة المتراصة..
الأوامر محددة و صارمة حتى أنت أيها القزم لا تقوى على مخالفتها.. بمجرد أن أشرت إلى الرّحيل رحبت بالفكرة و بادرت بالسير.. في الواقع كنت أود المكوث أكثر معك لأستطلع سرّك و سرّ عالمك النابع من الأساطير.. لأمتع معدتي بوجباتك الشهية و آخذ وقتا أطول للراحة و التفكير.. غير أن الساعة تمضي بلا توقف و علي بمتابعة فك اللّغز.. لا راحة و لا كسل في أرضك يا قزم.. ترى إلى أين تقودني؟ إلى النجاة أم إلى مزيد من المجازفة و الامتحان؟
القزم يمضي بك بلا كلام أو التفات إليك همه الوحيد أن يوصلك إلى مفترق الطرق..
بعد مدة أوقفته ضفة مستنقع شاسع مليء بالأحراش المائية و زعانف عائمة.. عن يمينك امتد جسر دائري ضيق مجوف التصقت بجدرانه عليق شائك كأنه سرد مهجن و عن يسارك جسر صخري رهيف.. شيء ما يتحرك في المستنقع، شيء ما يقفز و يغوص، إنه حيوان مائي يشبه القرش لكن جلده جلد تماسيح..
- ما هذا؟ سألت بفزع.
- قناص المستنقع و حارس الضفة الثانية..
اقتعدت جلمودا خلفك و ربتت على رأسك مولولا بصمت..
- أعتقد أن طريقي سيتوقف هاهنا يا صديقي القزم..
فنظر إليك و ربت على كتفك:
- بل ستواصل رحلتك، هذا قدرك..
- قدري! إذن سأهلك لا محالة هذه المرّة..
فحول نظره إلى المستنقع:
- لا تدع الخوف يشلك، فكرة الموت لم تكن يوما عائقا في سبيل بلوغ الغايات..
تحبوا على طين لازب، الشوك المنتصب فوقك و حولك يمنعك من الوقوف.. تحبو في هذا النفق الضيق.. تحبو عاريا إلا من سروال مهترئ.. سحنتك ممتقعة شاحبة، نحولتك فضحت نتؤات عظامك.. القزم الأمرد أخبرك أن جسر الشوك، الطريق الوحيد الموصل للضفة الثانية، إنه طويل لكن خال من المخاطر.. عيبه أنه شائك و يتكمش عند الغروب و يتفتح عند الشروق..
- ستتعب، ستبدل جهدا في مسابقة الشمس، لكنك إذا صبرت و قاومت اللّسعات فستصل بعون الله.. أما الجسر الصخري فقصير لكنه لزج، عواقبه وخيمة و لا ينجو منه إلا محظوظ.. قال القزم..
قلت مطرقا:
- غايتي الوحيدة العودة إلى أهلي.. إلى.. و ..
إنها المرة الأولى التي تذرف فيها الدمع بهذه الغزارة.. فمدّ يده الصغيرة و احتضن كفك الأيمن رابتا عليه و قال:
- إذا واصلت مسيرتك، فسيمن الله عليك بالفرج.. المهم أن تقاوم بتحد و جلد و لا تنسى التوكل على الله..
- التوكل على الله، أجل، دائما توكلت على ربي..
أخذت نفسا عميقا و انتصبت واقفا.. خلعت قميصك الممزق.. نظرت بحزم إلى القزم.. مددت يدك مصافحا، و هتفت:
- وداعا أيها الصديق الصغير.. اعتني بنفسك و كن متأكدا أن وجهك الصبوح سيبقى راسخا في ذاكرتي..أجل لن أنساك أبدا..
فابتسم، و قال:
- في حفظ الله يا أخي، في حفظ الله..
اللّسعات من الجانبين تمدّ إبرها و تدمي كتفيك و باقي جسمك..المسافة تبدو لك بطول العمر.. النور المتسلل من الفجوات يعلمك أن الشمس لا زالت في عنان السماء.. غابة السرو اختفت و القزم الطيب و المأكولات الشهية معها..
عليك بالإسراع في الحبو يا عدنان، زمن النور في هذه الأرض غير معلوم، قد تظلم فجأة فتجد نفسك مثبتا في كماشة عذاب نتئة.. أسرع يا عدنان، اصبر عن الوخز و تقدم.. حياتك كلّها وخز، الوخز عاد روتين ممل..
الوحش من تحتك يسترق النظر متربصا.. ينتظر زلتك ليبتلعك.. تصرخ في وجهه:
- أيها الوحش الأبله لن أكون يونسك أبدا.. ابحث قرب الصخر ربما تعثر على فريسة أخرى.. أما أنا فلن تهنأ بملوحتي و حتى إن تمكنت مني فلن أشبع جوعك.. المعاناة أكلت كلّ لحمي يا متعوس..
و على الرّغم منة الأوجاع و الدم المهرق من ظهري و جانبي جسميك تتقدم منشدا نشيدك القديم:
- أخي أنت حرّ وراء السدود
أخي أنت حرّ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما
فماذا يضريك كيد العبيد
أخي إن نمت نلقى أحبابنا
فروضات ربي أعدت لنا
و أطيافها رفرفت حولنا
فطوبى لنا بديار الخلود.
لا تسأم من النشيد حتى الإعياء لا يثنيك عن الإنشاد.. دائما كنت تترنم.. لنفسك تنشد و لزوجتك و لطفلتك.. حتى في أحلك الظروف تغني.. الغناء و التنكيت تسلية المنبوذين، كنت تفصح دائما حين تفاجئك والدتك في على كرسيك المتأرجح على السطح تدندن و عيناك مغمضتان..
ضباب كثيف يغرق المنطقة.. الرؤية باهتة صعبة و اللسعات تزداد.. شيء ما يحدث.. النفق يتسع و الشوك ينحصر.. بات بمقدورك الوقوف.. المكان يتسع لطولك، فتنتصب بصعوبة و ألم في ظهرك و الركبتين.. تفرقع عظامك بلذة.. تتفقد مواضع الوخز.. الدم تخثر في المسام المنتفخة..
تعاين الأمام.. الرؤية معدومة .. تقرر التقدم.. تمدّ قدمك بلا مبالاة.. إنها تقع في الفراغ.. تحمد الله أن الارتفاع كان بسيطا.. لم يحدث لك أي كسر.. تتحسس موضع سقوطك.. إنه عشب، عشب كثيف، تقول في نفسك بعد صمت و تقفز مسرورا:
- لقد نجحت.. نجحت.. اجتزت المستنقع..
و تخر ساجدا شكرا الله على التوفيق.. و تستلقي على ظهرك متوسدا ذراعيك قائلا:
- سأنتظر حتى ينجلي الضباب، بعدها أقرر ماذا سأفعل.


يتبع............ الحلقة الأخيرة .......>>>

اللّوحة - الحلقة الثانية -

ترفع جفنيك المثقلين.. ضوء خافت متسلل من فرجات صغيرة بين أوراق رمادية فاتحة ينبهك.. يدعوك للقيام.. إنك مسجى فوق صخرة سوداء مفلطحة على شكل دائرة..
تقتعد الصخرة في ذهول، تعاين المكان..الأعشاب الاستوائية، و التربة بصخرها اكتسوا بتدرجات الرمادي، كأن الغابة بقية حريق كرّ منذ أيام..
أصخيت السمع طويلا.. صوت واحد يتردد صداه، إنه صفير الريح يتخلل الأعراف الباسقة..
مكثت على حالك مذهولا، لا تجد ما تقوله، و لا ما تفعله.. حرت في الأمر.. كلّ المشاعر اختلطت و اختفت خلف اللاشعور.. الزمن بداخلك توقف، عقاربه حَبست عند إشارة الاستفهام و التعجب.. استنكفت عن الحركة، عن المضي في الممشى التربي الزاحف كالحية خلال الأشجار و التخوم..
أخذك التخمين بعيدا حيث الحكمة القائلة أن فهم السبب يتم بالبحث و ليس بالعجب..
صمت..
الكابوس يدق الناقوس.. رماديا بدأ، غريبا يشرح لك اللامعقول، و اللامعقول مخطوط عتيق مبعثر أمامك..
تفرك عينيك.. تدقق النظر.. لم يسبق أن عانيت من الرؤية الواهمة، من الخيالات.. الكل حولك مجسم بأبعاده الثلاث و البعد الرابع كذلك..
ساعة يدك هناك في المرسم.. المرسم بعيد.. مخفي خلف العتمة أو ما بعد العتمة..
هل أتحرك و أمضي، أم أبقى قابعا فوق هذه الصخرة أنتظر الإشارة و العودة؟ أم لحظة اليقظة؟ أكيد أني أغفو..
تضحك بصمت..
تنغز دماغك للمرة الرابعة.. تسأله الجواب المقنع.. إنه عاجز.. تقتنع أنه عاجز.. كيف يمكن تفسير اللامعقول؟
هل أتحرك و أمضي في الممشى؟ فلأفعل، ربما وجدت من يشرح لي؟
تتحرك، تقفز من على الصخرة، و تمضي في الممشى الأفعى.. الغابة الرمادية تطوى خلفك دون صوت سوى حفيف الأوراق و زقزقات بعيدة..
تقف هنيهة، تذكرت سيجار( أفراز).. تسحب الولاعة من جيب سروالك المتسخ باللون.. تشهق دخانا ساخنا و تواصل المضي في الآتي.. تدخن كي لا يقع رأسك.. هكذا تمزح دائما..
الطريق، الغابة و الفراغ.. يبدو لك أنك تمشي بلا تقدم و أن المسافة تزداد في الأمام و تنقص في الخلف..
الوقت حمل قناعه الثاني و انتحى ركنا يترصدك.. عبأ دقاته بالفراغ و الأسئلة و زرعها حولك..
تلقي اللفافة.. تسرع الخطو.. هضبة تسكن الأفق تدعوك لامتطائها.. تُسرِع الخطو و الأمل.. تأتي إلى الأفق.. تركض.. تقف.. تلوي عنقك يمينا و شمالا.. تنظر.. سور شامخ يقف أمامك متحديا عنيدا.. حاجز يواري مجال الرؤية.. بوابة صغيرة تخترقه..
تسأل أي طريق أسلك اليمين أم الشمال أم أجتاز عتبة الجدار..
الإعياء يدعوك للراحة.. تتكئ على الجذع شجرة.. تشعل لفافة، و تسلم عقلك للتخمين، للصمت و الارتباك..
تلوي عنقك يمينا.. ممشى يخترق الرماد.. تلوي عنقك شمالا.. ممشى يصاحب الرماد.. تتطلع إلى مدخل الجدار.. تتعلق عيناك به.. شيء ما بداخلك ينصحك بالدخول.. التوتر يربك أعصابك، ينغزها بشدة..
تهمهم:
- أعتقد أن ساعة المغامرة و المجازفة آن أوانها.. علي أن أحزم الخوف و أرفع الحاجز عن ذئابي.. أن أتركها و لو لمرة تقتنص فرائسها في الهضاب المحروسة، أن أدربها على ملاقاة الصدفة..
تعب نفسا طويلا.. تلقي عقب اللفافة.. و تندفع بأوتار مشدودة متفوزة هاتفا:
- بسم الله، على الله توكلت و به استعنت و إليه لجأت.. شدّ حيلك يا بطل..
انحنيت و دخلت.. العتمة صدمتك.. الدهليز إبتلعك ثم لفظك مرا..
انتصبت.. وقفت متأملا و قلت:
- مستحيل، جدران داخل جدران..
فركت ذهنك، تفطنت، هتفت:
- إنها متاهة.. يا اللّه إنها متاهة..
- الحيطان الحجرية عالية يستحيل تسلقها لاكتشاف ممر النجاة.. لابد إذن من المشقة، من حث الخطى بين الممرات من الاعتماد على حدسك، على ذكائك، على مهارتك في حلّ الوكاء..
تترك الوصاية لقدميك.. تجتاز المنعرج الأول.. تجتاز الدهليز الثاني.. الثالث.. الرابع.. تتحرك كالأفعى بلسان ينضنض.. تتسلل عبر الممرات المتفرعة بلا انقطاع..
لون الجدران و الأرضية خفقا يتبدلان، يتدرجان نحو البني..
قدماك توخزانك، الإعياء سكنهما منذ فترة.. العرق يتفصد من كلّ كيانك..تيار ريح ساخن يحثو التراب في عينيك.. البرق في الأعلى يومض.. يتبعه رعد شديد..
تتفقد السماء، كتل ملبدة حاصرتها عنوة.. المطر يتساقط زخات زخات.. المطر يضاف إلى الديكور الموحش، يوقع حضوره بنوتاته الصاخبة، يحرمك من متعة سيجارة أخرى..
يبدو لك أن الأشياء تحالفت عليك في هذا الوجود اللامعقول، و اللامعقول هنا معقول.. إنها مأساة غريبة..
تحفز جسدك المبلل.. تتقدم في الممرات المتقاطعة الملتوية..
أمازلت تعتقد أن ما تحياه كابوس من ابتكار الشيطان الرجيم؟ لعبة ساخرة يهزأ بها منك؟ يعلم هو أنك تحب أفلام الفنتازيا و الخيال العلمي.. يعلم هو أنك معجب بألف ليلة وليلة و إبداعات السرياليين.. لذاك جاءت كوابيسه غريبة عجيبة..
و ها أنت الآن تعيش الحلم..
بما تشعر و أنت تكتشف الجهة الأخرى للعالم، للكون؟
تشعر بالخوف، برغبة لا تصور في الرجوع إلى بيتك و عالمك البسيط..
الممرات تتشابه.. المتاهة لعبة قذرة.. تحب المشاركة فيها على الورق أو في الكمبيوتر..
تعلن للفراغ بحنق:
-أكره المتاهات.. أكرهها..
تتوقف للحظات.. تتنشق هواء مبللا.. ترفع وجهك للمساء، الماء البارد يغسله و يغسله..
المطر يتوقف.. البرق يلمع و الرعد يتفجر..
تسند ظهرك بالجدار، تمدّ يدك لسترتك.. تسحب علبة الأفراز.. تحمد الله على نجاتها من البلل.. الماء لم يتلف اللّفافة الأخيرة.. تسحبها، تضعها بين شفتيك، و تلقي العلبة بعيدا.. تشعل اللفافة، تعب منها نفسا عميقا.. تزفر بنشوة.. خيوط الدخان تتراقص أمام ناظريك بفتنة..
تركن للصمت، للتدخين.. الإعياء و البلل يسكنان مسامك دون استئذان و لا فاتورة كراء..
تلعن التثبيط و الشيطان الرّجيم.. تحصر بصرك في الممر أمامك، في منعرجه الغير بعيد عنك..
- أرجو من اللّه أن تكون آخر منعرج و إلا تيقنت أنه حكم علي بالموت في هذه اللعنة الحقيرة..
تلقي عقب اللّفافة في الوحل، و تندفع بخطى سريعة.. تجتاز المنعرج الأول، الثاني، الثالث، و تتقدم في هذا الممر الطويل بلا التواءات..
- كم هي الساعة؟ تستفسر حائرا؟ كانت الخامسة و النصف مساء في المرسم..
تتطلع إلى السماء الملبدة.. يبدو لك أن في هذه البؤرة المنسية الزمن لا يتحرك..
- لو لم أنس ساعة يدي.. لا يهم..
ما جدوى معرفة الوقت و أنت محبوس في المتاهة رفقة الغياب.. زوجتك ستقلق عليك، هذا أكيد.. كذلك طفلتك الصغيرة.. منزلك البسيط.. نباتاتك المذللة.. كلهم سيقلقون عليك.. سيتفقدونك في مرسمك لن يجدوك.. سيسألون الناس.. الشوارع.. المدينة..سيبكون لفقدك.. ربما طويلا.. إلا أنهم سيتكيفون مع الوضع يعتقدون فراغك.. والدتك وحدها ستتذكرك، و تبكيك كلما لمحت طفلتك الصغيرة و صورك، لوحاتك المهجور في القبور مع الغبار..
تتضرع بصدق لخالقك.. تطالب الخلاص و العودة بكل مشاعرك..
الممر يصل إلى النهاية، هناك التواء.. تمضي فيه بلا تفكير تترك الحبل للصدفة.. الوقت آن للإيمان بالصدفة.. الصدفة تصدق كثيرا.. الصدفة هي القدر.. أجل هي القدر.. أجل، و القدر يبدعه الله سبحانه.. و أنت عبد مؤمن صادق الإيمان.. تصلي أوقاتك.. تصلي أوقاتك.. تصوم النوافل.. تتلو القرآن كل يوم.. لن يتركك الله في مأزقك هذا.. سيفرج عنك.. رحمته واسعة، و أنت عبد مؤمن تسأل رحمته دائما.. ذنوبك الأول لن تحجب معونة الرّحيم عنك..
تجثو.. ركبتاك مخوضتان في الوحل.. المطر خيط من السماء يغسلك للمرّة الثانية.. تنادي:
- اللّهم أني كنت من الظالمين.. اللّهم أنك رحيم تحب الرّحمة فارحمني..
و تبكي بمرارة.. كفاك يهويان في الوحل.. تحاول جاهدا خنقه، إلا أنه ينزلق ساخرا..
تنتفض.. تقف.. تعاين الممشى.. تسير في مهل..
يتناهى خلفي صوت نشاز..بتؤدة ألقيت بنظري إلى خلف لم يكن هناك شيء.. بقيت لوهلة محدقا في الالتواء و قد استحال نبضي وليد يوأوئ..لم يظهر شيء.. أكيد أني بدأت أخرف.. قلت في نفسك، و هممت بمواصلة فك الخيوط.. لكن عند أول خطوة تكرر الحفيف.. شغلت ذاكرتك.. قالت:
- إنها خطوات حيوان..
إلا أنك لم تعرها أي اهتمام، و أتممت سيرك ووقع خطوات تنهى من خلفك.. تقتفي أثارك..
- اللعنة، ظني صادق هذه المرّة.. هناك من يلاحقني.. قلت في نفسك و قد أزمعت مباغتة هذا الشبح الماكر..
خطوت بضع خطوات و التفتت في خفة بهلوان إلى الخلف.. فإذا ببصرك يصطدم بصورة كلب من فصيلة الدوبرمان في حجم أسد هصور واقف يحدق فيك بتركيز شديد و قد انشمرت شفتاه عن أنياب ابريه طويلة و أسنان تماسيح استوائية و اللّعاب ينزف منها كالصديد..
أربد لونك و تجمدت دماؤك.. ارتعاشة مرعوبة طفحت تتسلقك.. لزوجة دبقة نزفت سريعة من جبهتك.. العيون المقابلة تعكسك لحما طريا جاهزا للوليمة و أي وليمة!
أعصابك وثبت متفوزة ترسل حشدا من الخطط كلّها بدت عنينة في مجابهة هذا العاتي الخارج من الحكايات الخرافية..
لم يحرك ساكنا.. بقي في مكانه على حاله كالتمثال يتفصد من بين أنيابه زئير خافت مهددا..
السماء الرمادية خفقت تمطر سوادا بهيميا و دقائق بعمر الأرض..
المواجهة لعنة حاصرتك بسياج ناري مشبوب الأوار.. قلت في نفسك:
- لماذا لا يهاجم و ينهي هذه الفاجعة؟
رتبت بسرعة حدسية وسيلة لفك هذا الوكاء.. خفقت بحذر و مهل تتراجع إلى الوراء و قسمات وجهك تتملقه مسترحمة..
عند المنعرج الأول اندفعت كالرصاصة تنهب قدماك الممرات الملتوية نهبا دون أن تلتفت أو تتأكد من غريمك.. الأمر الأوحد الذي سيطر عليك هو الركض دون تحديد الاتجاه.المهم أن لا ينال منك..
ولجت ممرا مستقيما لا تتخلله ممرات ثانوية.. مضيت فيه رغم وحولته.. و كلما زدت تعمقا زاد انحصارا و ضيقا..ركضت بلا سقوط رغم التعثر..
فكرة النجاة بأي وسيلة أضحت غايتك المرجوة.. الوحل استحال إلى بركة ماء غمرتك حتى صدرك فزادت جسمك المبلل بللا..
العياء بدأ ينال منك.. و ها أنت تتفقد مطاردك.. إنه خلفك يتنقل على حافة البركة بانفعال في حركة جنونية يرصدك..
المسافة بينكما اتسعت..
- لمَ لا يتبعني هذا الكاسر؟
تفطنت إلى أنه ربما لا يحسن العوم، أو أنه يخشى الماء الموحل.. تتوقف عن العوم لاستعادة نفسك، و التفتت إليه هاتفا في لهاث:
- ماذا دهاك يا وحش الأمازون؟ هل تخشى الماء؟ أم أنك لا تحسن السباحة؟
انتصب في مكانه حاصرا نظره ما بين عينيك و عوى.. في خطفة بصر وثب إلى البركة ناثرا و حلها على الجدران..
اندفع نحوك كالدلفين عاقدا العزم على تحولك إلى قديد مهشم..
بانفعال و فزع غصت و سبحت كالمجنون حتى ضاق نفسك و ارتطمت بالحافة الثانية للبركة طفت على السطح و قفزت إلى اليابسة.. وجدت الممر مسدودا بجدار لا نهاية لارتفاعه تخنقه فجوة تموقعت على ارتفاع متر و بضع سنتمترات.. التفتت خلفك.. الكلب المسعور يقترب من الحافة..
- ماذا أفعل يا رب؟ قلت بقلق شديد..
نظرت إلى الفجوة و ركضت نحو الجدار.. مددت يديك و قفزت صاعدا إلى داخلها دون تردد.. و لحسن حظك أنها كانت تتسع لك..
زحفت بخفة داخلها.. وددت لو كان بمقدورك النظر إلى حالة الكلب و هو يتجرع ذيله.. عواءه كان كافيا لتأكيد نجاتك..
مضيت في هذا الدهليز الضيق تحت جسدك المبلل على الثبات و مجاهدة التعب.. كان طويلا و عطنا و أكثر اتساعا في الأيام.. عضلاتك تشنجت، لم تعد قادرة على المواصلة.. التعب و الجوع أوهنا قواك..
و أخيرا ارتخت أعضاؤك.. غفوت حتى بدوت كدودة أمعاء خدرها المبيد.. شخيرك يربك المسافة، يعلن انقيادك لسيرورة الوقت..


يتبع......>>>

9/05/2009

اللوحة - قصة متسلسة


-1-

اللحن الرومانسي يغازل اللون، ينعش مرسمك الصغير. يحاول جاهدا إنبات فرحة صغيرة بين شقوق سقفه المتآكل بفعل القدم و الرطوبة.
النور الدافئ المتسلل من النافذة المفتوحة على الضجيج يتسلق الجدران الملطخة بالألوان القاتمة. يكشف لوحات حزينة متراصة كالأيتام الجياع فوق الموقد و على الأرض الإسمنتية الباردة، و يفضح عري كنبة عبثت بها الفئران، و اختبأت في وكر بجدار الباب.
و أنت بمئزرك البني الترابي تقف أمام الحامل في حالة سكر و ذهول تموقع خطوطا جديدة لخارطة الإنسان المشرد على هذا القماش القديم.
الريشة تتحرك و نيئة. تكسر عمودها أحالها عجوزا تلملم أيامها الأخيرة.
تبعد أهدابها عن القماش، و تغرقه في شعرك الشائب الأشعث. تخربش إهابك بلطف.
عيناك الجاحظتان تتطلعان في التفاصيل باستفهام دائم يحاول استشراف الخط الآتي.
شفتاك المحتجبتان خلف شاربك الكثيف و ذقنك العتيق تنتشيان بدفء رشفة قهوة. تبلل جوفك الخاوي،و ترعش أعصابك المتفوزة. ساعة الحائط الفخارية المغبرة تعلن برنينها المتثائب حلول الثانية.
تتوقف للحظات مبتعدا خطوة إلى خلف، تتأمل التفاصيل، تتسأل في نفسك:
- أشياء كثيرة تنقص.. الفكرة المرجوة لم تتضح بعد.. الألوان لا تفشي سرها..
تحتار الكلمات في جوفك، تهتز، تضطرب.. تسحب كرسيك الخشبي الهزاز وراءك.. صريره يزعجك قليلا..تقتعد بتوتر.. تفرك ذقنك.. تعظ ساق ريشتك.. تؤلمها.. تصيح:
- الذنب ليس ذنبي.. العيب في تلافيف دماغك، في عضل قلبك.. العيب عيبك.
الكرسي الهزاز يهدهدك،يواسيك:
- لا تقلق.. تأمل جيدا اللوحة.. التعبير المناسب سيتشكل عاجلا أم آجلا.. استنطق إلهامك، الكل معك، كل طاقتك الخلاقة، و ستصل إلى اللوحة الغاية..
تتساءل و كفاك متعانقان فوق رأسك، يحاصرانه، يعتصرانه:
- ماذا يتقصها يا ترى؟ ماذا يلزمك يا فلذة الروح لتفصحي عن آهات هذا العجوز العالم؟ لماذا الابتكار الممكن ؟ كيف السبيل لتحقيق الأمنية؟
الصمت يلفك.. اللحن الغجري يتوقف.. نحلة مستطلعة تحوم حولك.. تحاول فك الطلسم مكانك.. تقرأ الفنجان لك.. تخبرك أن الخروج من البئر العميق ممكن يكفيك رؤية الحبل المدلى و الرؤية تحتاج لجهد و إمعان نظر.
تمد يدك.. تحمل الفنجان.. تقطر قطرة في فمك.. القطرة باردة و مرة.. تحب القهوة المرة.. القهوة السوداء المرة.. في بعض الأحيان تضيف إليها نقاطا خجولة من الحليب، من البياض.
تقف.. تقبل على اللوحة.. توقع خطا صغيرا.. تتردد في الإضافة.. اللون لا يريحك.. تبتعد قيلا.. تتأوه.. اللوحة الحلم تبدو لك مستحيلة.. كل المدارس تتزاحم في ذهنك.. بيكاسو يدافع دالي و اسياخم يسابق دينه.. الخط يوازي الفراغ..
تدخن بشغف، بهذيان..
- ماذا دهاك يا عدنان؟ لم هجرك إلهامك في منتصف الطريق؟ لم تركك وحيدا في قلب الصحراء تبحث عن دبوس شفاف؟
تسلم تفكيرك للذهاب و الإياب.. تارة مطأطأ و أخرى رافعا رأسك إلى السقف المتحير.
إنها الثالثة..
مسارك يطول.. يفتح صدره للتخمين اللولبي.. الخطوط تَسطر، تَوازي عقارب الساعة..
إنها الرابعة..
النافذة حقل تجارب يضج بالنور و الحرارة، بالصخب البشري.. خانتك مَلهمتك يا فنان.. لعبت معك لعبتها المعهودة.. ذهبت مَخلفة ريشتك في عزلة قاتلة..
تقصد المسجلة.. تغيير الشريط.. تحمل إطار صورة زوجتك و طفلتك الصغيرة.. تبتسم.. تبتسمان لك في فرح.. عيونهما تواسيك.. ألحان عمر خيرت تبدد السكون.. تحملك بمهل خارج اللحظة.. توقع راحة نفسية و فكرية قصيرة..
الصورة جميلة، حنونة.. تعيد الإطار إلى مكانه.. تقصد الكنبة اليتيمة، تستلقي.. تتأمل السقف المتآكل.. تبادله حوارا صامتا مكثفا..
الساعة تخبرك: إنها الخامسة و النصف..
غفوت يا عدنان، التعب تمكن منك..
تقتعد، تتمطط في تثاؤب لذيذ.. تحدق في حامل اللوحة، في الساعة.. تقصد كرسيك الهزاز.. تجلس.. تسحب النضد الصغير.. تملأ الفنجان قهوة باردة.. تشعل السيجارة.. تبادل اللوحة التأمل..
حامل اللوحة يبدو لك بعيدا بعيدا..
تفكر عينيك، بصرك يخدعك.. ما وراء اللوحة يبهت.. شيء ما يحدث.. المكان يتغير..
انفجار ضوء ينقشع خلف حامل اللوحة.. يطمس بصرك.. يباغتك.. يفزعك.. تفتح عينيك.. تجويف حلزوني معتم حل خلف الحامل.. انه ينفتح، يفغر فكيه، يجذبك بقوة كالمغنطيس.. تقاوم.. يبتلعك بيسر.. لم يدع لك الفرصة للصراخ، لطلب النجدة..
تغوص في الفراغ، في العتمة.. تحاول الصراخ، صوتك أبكم.. المسافة بينك و بين مرسمك اتسعت.. مرسمك استحال نقطة ثم ظلمة..
انك تسبح في الفراغ، في الديجور..
لكن كيف يمكن حدوث ذلك؟ كيف؟ هذا غير معقول، هذا جنون،تخريف.. أكيد أني أحلم، التعب أنعسني، إني في كابوس، لا شك في ذلك..
هاتف جمهوري يلعن:
- كلا، ما حدث حقيقة يا عدنان.. أنت الآن في العالم الثاني..
و حلّ الصمت ثقيلا رهيبا..
لم تصدق سمعك.. حرت في جواب الهاتف الغريب.. إنه صدمة، صاعقة حارقة أحالتك رمادا مبعثرا..
- إذن مت.. أنا الآن في ذمة الله.. مستحيل.. الموت أمر آخر.. أحاسيس أخرى.. الموت سيناريو مختلف كلية عن هاته المشاهد؟
كل الأفكار عجزت عن التفسير، فقدت بوصلتها الاتجاه.. كل المشاعر تكومت و شكلت هيكلا للرّهبة و الحيرة.. هيكلك يتشقلب بلا قيد في الخواء، غائصا في زمن الصفر مابين السقوط و المعراج..
تحاول السيطرة على حركتك.. تحلم توازنك.. تتموضع في حالة الطياران.. الأمام ظلام.. تحدق.. تحصر حدقتيك في بؤرة بارقة انقشعت في الوسط.. إنها تتسع تتسع.. الظلام انجلى و ترك مكانه للبياض.. ألوان تتشكل كالدوامة.. تغوص في الدوامة.. تغوص و تغوص، و الغوص مغص شديد في أمعائك.. ارتجاف في أعضائك، كهرباء تسري في دمك..سرعة تسارعك تزداد تزداد.. الألوان تتدرج تتدرج.. صداع لا يحتمل يعتصر دماغك، يفقدك وعيك.. يغمى عليك..

يتبع........>>>

التسميات: , , , , , , , , ,